الحلقة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه
نستعين، اللهم صل على محمد وآل محمد
في الحلقة الماضية ،أو الجلسة الماضية تطرقنا
إلى المسلك العقلاني وقلنا بأنه أن يكون الموجه والدافع هو العقل أو العقل العملي
، لما ينبغي أن يعمل، والبتالي لا يكون هوى النفس هو الموجه إذا تعارض مع العقد
العملي.
وسنناقش اليوم كيفية تفعيل العقل العملي،
وكيف نحصل ونحصن العقل العملي. فنحن مثلا
ندرك أن عمل ما هو عمل مفيد ونافع، ولكن ليس لدينا الدافع أو الحافز كي نبادر به .
فكيف نحرك الجورح والإرادة المحفزة للقيام بالفعل الذي يقول العقل بأنه ينبغي
عمله.
وسبق أن قدمنا أمثلة عن أمور يرغبها العقل
وتأباها النفس، وبالعكس أمور ترغبها النفس ويأباها العقل، والمطلوب هو أن يكون
العقل هو الموجه، والسؤال هنا كيف يكمن أن نطوع النفس لأجل أن يصبح العقل هو الموجه؟
فإذا إستطاع الإنسان أن يجعل من العقل الموجه
لأفعاله، فالنتائج ستون مبهرة جدا للإنسان، فضلا عن الإنسانية بشكل عام عندما
يتحول الأمر إلى ثقافة رائجة. فهذ لعله أفضل مستويات الفكر الذي يبني حضارة. فإذا
كيف نطوع النفس، وكيف نحصن المسلك العقلاني من إختراق النفس ورغباتها، وكيف نحصل
مقتضيات ومتطلبات العقل العملي.
والإجابة على هذا السؤال ستكون تحت عنوان الإيحاء. فلو فرضنا على سبيل المثال اني أريد القيام لأداء صلاة الصبح،
أو لأداء الصلاة في أول وقتها، ولدي حالة من التداعي والدعة بأن أراوح مكاني وأؤجل
الصلاة لوقت لاحق، ففي هذه الحالة العقل يأمرني بأن أقوم لأداء الصلاة، في حال عدم
وجود مانع، والنفس تطلب مني أن أبقى مرتاحا داقئً، فهنا مثلا كيف يمكن تحفيز الجوارح نحو الفعل المطلوب بمقتضى توجيه
العقل؟
لدينا ما يعرف بالإيحاء، والإيحاء ينقسم إلى
قسمين، إيحاء داخلي وخارجي. والمقصود بالإيحاء أن يقوم الإنسان بالإيحاء لذاته، أو
يوحى إليه من الخارج، بكل الأفكار التي تساعد على التحفيز والإنطلاق نحو الفعل
المطلوب.
ونورد هنا مثلا عن الإيحاء الذاتي، أي أن يقوم الإنسان
بالإيحاء لذاته، فيخرج الإيحاء من بنات أفكاره وذهنه وعقله. فيقول لذلته مثلا أن
الصلاة في أول وقتها فيها الكثير من الأجر والثواب، الصلاة في أول وفتها تريحني من
عناء النهار، وهكذا يقوم بإستحضار وإستذكار كل ما يوجد من أمور محفزة ، حتى لو
استطاع الإنسان كتابتها فهو أمر جيد، وتبدأ عملية إقناع النفس من خلال ما تتضمنه
فكرة العقل العملي من إيجابيات، وتستمر عملية الإيحاء بشكل متكرر ومتواصل، إلى أن
نرى أنه وبشكل تلقائي، إنقلبت النفس من الرفض إلى القبول، ويشعر الإنسان بحالة
الإنقلاب العجيبة هذه بطريقة ملفتة للنظر، وكيف أنه تحول من رفض الأمر الفعل إلى
الإنطلاق إليه.
وهكذا الحال في تعويد النفس على الكثير من
المستحبات، كالصلاة والصوم
والعمل، وخصوصا في الأعمال المضنية، وعلى
الدأب والصبر، عن طريق الإيحاء الذاتي، أي عن طريق إستذكار وإستحضار فوائد العمل،
التي بدورها تحفزه وتدفعه للإنطلاق تحوه.
أما موضوع الإيحاء الخارجي، فهنا تحضر
المؤثرات الخارجية، والمؤثرات الخارجية أشكال وألون، ومنها ما هو إيجابي وما هو
سلبي. فلدينا مثلا المؤثر البيئي، والمؤثر الصوتي، والمؤثر النفسي، المؤثر
المعنوي، كل ما أتى من الخارج. فعلى سبيل المثال، نريد أن ندفع إنسان للإنطلاق نحو
فعل معين، فأصنع له نشيدا أو موسيقى توحي له بذلك، أو أريد مثلا أن أوحي له
بالتورط في مسألة معينة، فأصورها له بشكل جميل، فأصنع دعاية للتدخين مثلا تصوره
بصورة جميلة وحسنة، وهكذا دواليك. فتتم عملية الإيحاء الخارجي بمؤثر خارجي، وهذا
المؤثر بدوره يشكل حافزا، ولكن هذا الحافز تارة يكون بشكل لإيجابي، وتارة بشكل
سلبي.
وبالعودة إلى موضوع المسلك العقلاني،
فالإيجاء الخارجي ليس لنا علاقة به وغير مطلوب، والإيحاء الذاتي هو الذي أحتاجه.
فالإيحاء الخارجي هو عبارة عن وهم لا أكثر ولا أقل، فلو فرضنا أن الإنسان إستمع
إلى نشيد حماسي مثلا، ففي نفس برهة الإستماع، تخضع الأحاسيس والمشاعر لجو هذه
الإيقاعات الصوتية، وفي وقتها يتحمس، ولكن إذا أوقفنا هذه الإيقاعات، تعود الحال
إلى ما كانت عليه قبل النشيد، بل إلى ماه وأسوأ، وذلك لتولد حالة طلب شديد للعودة
لهذا الجو مرة أخرى، وهكذا الحال في كثير من الأمور التي تكون إيحاءاتها خارجية
وليست داخلية ذاتية. ولذلك فاللإضل أن يعيش الإنسان الواقع كما هو، أي أن يتلمس
الواقع بما يتضمن من واقع، ولا يحاول الإعتماد على الإيحاءات الخارجية، ولا ينجر
إليها، كون مفعولها جدا مؤقت، وبالتالي لا تقدم ولا تؤخر. وكما قلنا هناك إيحاء
سلي وإيحاء ءإيجابي، والإيحاء الإيجابي فهو مباح ومجاز لدى كثير من الفقهاء، أما
الإيحاء السلبي فهو مرفوض شرعا فضلا عن أن العقل يرفضه. فكيف استطعنا مثلا أن نقنع
بعض الناس بالإنتحار، كأصاب الحقيقة المطلقة في اليابان الذين انتحروا بشكل جماعي،
أو أصحاب الطريقة الداوودية الذين قتلوا في الولايات المتحة، كيف أقنعوا جميعا
بالموت، أو أن يواجهوا حتى الموت أو الإنتحار، فهناك إقناع. ولكن هناك إختلاف بين هذه
الأمثلة والأشخاص الذين ينفذون العمليات الإستشهادية، فهؤلاء يستندون إلى وقائع،
بينما نجد حالات معينة لا تستند إلى وقائع، حيث يخضع الإنسان لمؤثرات معينة، تجعله
قادرا على القيام بأصعب الأمور التي لا يتصورها العقل، كأن يرمي بنفسه من شاهق،
فهنا لدينا إيحاء خارجي يستطيع أن يتسلط على المشاعر والحواس إلى أبعد حد، ويشجع
الإنسان ويورطه بأخطر المهام وأخطر الأعمال.
فلذلك نحن لا نعول على الإيحاء الخارجي، لأنه
في الحقيقة يصنع وهما، أما تعويلنا فهو على القسم الأول من الإيحاء والذي هو
الإيحاء الذاتي، وان يقنع الإنسان نفسه بما يتوفر لديه من معطيات ومقنعات.
والحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق