الحلقة الرابعة
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة
والسلام على محمد وآله الطاهرين
في البداية أود الإشارة إلى وجود القليل من
الإسهاب في موضوع اليوم، نظرا لأهميته القصوى، وهو يعد تقريبا جوهر المنطق التربوي
برمته، فكل قواعد المنطق التربوي تتعلق بالموضوع الذي سنتناوله اليوم.
سنقدم مقدمة للموضوع كما العادة،كي نفهم
الفكرة ونصل إلى النتيجة.
كثيرا ما إذا توفر للإنسان وقت، وكان منتجا
في هذه الوقت، كانت إرادته أقوى من هوى النفس، قكل الحياة مبنية على مقدار ما
ينتجه الإنسان، فإذا أنتج أكثر، ولم يضيع الكثير من الوقت، تصبح الحياة منتجة
والشخصية أقوى وأكثر تأثيرا، أما إذا أضاع الوقت، وهوى النفس غلب الإرادة، تصبح
الشخصية أكثر إضمحلالا وهشاشه، ويفقد الإنسان حضوره في المجتمع.
فإذا السؤال يكون: كيف يمكن
للإنسان الإستفادة أكثر من الوقت؟، وبالتالي
تصبح شخصيته أقوى؟ وهذا ما يسمى السلك العقلاني، وهو ما وصلنا إليه في
الجسلة الرابعة المباركة إنشاء الله.
المقصود بالمسلك العقلاني أن يسير الإنسان
وفق العقل العملي، والمقصود بالعقل العملي هو ما ينبغي أن يعمل، مقابل العقل
النظري، وسوف نوضح المسألتين.
العقل العملي هو ما يكون نظريا صرفا لا علاقة له
بالممارسة والخارج، يعني عندما ندرس
النظريات الرياضية، فهذه النظريات لا علاقة لها بالخارج، فنحن نستفيد منها في
الخارج، ولكن لا علاقة لها بالخارج، أي أنه لا يوجد شيء في الخارج يسمى 1+1=2،
ولكننا نستفيد من المعادلات الحسابية في الخارج إذا احتجنا أن نجمع أو نطرح أو
نقسم أو أن نجد جواب لأي معادلة حسابية أو هندسية أو فيزيائية أو كيميائية، وهذه
كلها تسمى تطبيقات العقل النظري، أي ما زلنا في النظريات الذهنية الصرف.
أما
مثلا لو افترضنا سؤال كيف ينبغي الإنسان أن يحدد نمط الحياة، أن يتحكم بالنظام
اليومي، كيف يمكن أن يعاشر الناس، كيف يتحكم بالغضب، كيف يتفاءل مثلا، كيف يستثمر
العلاقات، كبف يستثمر الوقت، وغيرها العديد من الأمثلة عن أداء الإنسان وممارساته
في الخارج، والتي يعبر عنها بالعقل العملي، أي ما الذي ينبغي أن يُعمل. فالمسلك
العقلاني ينظر إلى هذا الجانب، أي ما الذي ينبغي أن
يُعمل. لماذا؟ لأن العقل النظري هو ديدن المتعلمين والمختصين فقط، ولا يخرج
جارج هذا الإطار، فإذا وجدنا شخص أمي مثلا لا يقرأ ولا يكتب، فهذا لا علاقة له
بالعقل النظري الذي يرتبط بالنظريات العلمية، مهما كانت هذه النظريات بسيطة جدا.
اما العقل العملي فهو محل إدراك كل الناس بلا إستثناء، من الكبير والصغير والمتعلم
وغير المتعلم، بشكل مطلق، وذلك لعلاقة العقل العملي بتطبيقات الحياة وأنماطها.
فإذا المسلك العقلاني يحاول سلوك هذا الطريق، طريق العقل العملي.
أما المسألة الثانية، فهي كيف أضع نفسي في المسلك العقلاني،
والذي هو جواب لسؤال ماذا يجب أن أعمل، فالجواب على سؤال ماذا يجب أن أعمل، هو
سلوك المسلك العقلاني العملي، والذي مرجعه هو العقل، وطبعا العقل البشري، عقل
إنساني جامع، والمقصود بالعقل الإنساني الجامع أي يقبله كل البشر مهما تفاوتت
الثقافات والديانات والأعراق والزمان والمكان، وهو ما يسمى بالآراء المحمودة أو
التأديبات الصلاحية، أو واجبات القبول، ولها عدة تسميات في المنطق، بمعنى أن كل
البشر تقول به. على سبيل المثل ، إضاعة الوقت أمر قبيح عند العقلاء، فهذا رأي
محمود وموجود لدى كل البشر، الإستفادة من الوقت هو أمر جيد لدى العقلاء، كذلك هو
رأي محمود وموجود عند كل البشر. وهكذا دواليك في موضوع ما ينبغي أن يُعمل وكيف
يتصرف الإنسان وكيف يعيش ويحدد نمط العيش. فإذا المسلك العقلاني يسير وفق هذا
الموجه، وهذا الموجه يوجد في البداية بالفطرة ويكتسبة الإنسان من خلال
المعاشرة والتجربة، وطبعا النصيحة لها
دور، فليس كل أمر بديهي، بل قد يحتاج الإنسان إلى إستشارة ونصيحة. وماهي الثمرة
العملية لهذا الأمر، الثمرة العملية هي أن تتركز شخصية الإنسان في ما يجب أن
يُعمل، وثمرته أن تقوى شخصية الإنسان. فكيف تكون
البداية في هذا المسلك العقلاني؟ فلو فرضنا أنه يجب أن أذهب إلى دوام
وظيفتي، أو أن أستيقظ باكرا، أو أن أمسك هذا الملف، ولكن نفسي لا تطاوعني كثيرا،
وأشعر بالكسل، فهذا ما يسمى بالمسك الأهوائي والذي هو مقابل المسلك العقلاني، وهو
الذي يعرقل المسلك العقلاني، بحيث يكون على الإنسان على سبيل المثال أن يفعل أمر،
فيأتي المسلك الأهوائي وحثه على الميل إلى الطمأنينة والدعة، إلى الراحة وعدم
العملوإلخ..، فيأنس الإنسان لصوت الهوى، وبالتالي لا يعمل وفق المسلك
العقلاني، وهنا تكمن المشكلة بالظبط، وإذا ضعنا يدنا على المشكلة، علينا ان نعرف كيف
نحلها، ونحن سبق أن قلنا أن المنطق التربوي هو أن ينساب الإنسان تربويا بشكل طبيعي
ودون أن يغصب نفسه، أي كيف يعمل وفق المسلك العقلاني دون أن يغصب نفسه، وسنجيب
الأن على هذا السؤال.
فإذا المسلك الأهوائي هو الذي يعرقل، فإذا
أخذنا مثال إنسان أراد أن يقوم للصلاة في اول الوقت، أحيانا تحثه نفسه على تأجيل
الصلاة، وأنه لا بأس إذا تأخر قليلا، بالأخص إذا كان يشرب الشاي في طقس بلرد في
جلسة مع أخوان طيبين انيسين وإلخ، عندها تحثه نفسه على تأخير الصلاة حينا بعد حين،
مثال آخر إذا كان الإنسان في صدد تأدية واجب ما، من درس او عمل إلى ما هنالك،
فتراه يؤجل ويقول أنه لا داع لتأدية هذا الواجب اليوم، بإمكاني تأجيله إلى الغد،
وهكذا دواليك، لا داعي لإكثار الأمثلة، أعتقد أن الفكرة وصلت.
فإذا راقبنا حالة الإنسان عندما ينجز، نجد أن
نفسيته تغيرت وشعر بإرتياح، فلو فرضنا أنك أنجزت عمل
لم تكن تتصور أنك قد تنجزه، أتشعر بالراحة أم لا؟ طبعا ترتاح، ولكن ليس
لأانك أنجزت العمل، بل لأنك أنسجمت مع نفسك الإنسانية، فأثبت لنفسك حضور وإنسجمت
مع إنسانيتك، تصالحت مع ذاتك.
المسلك العقلاني هو جزء مهم من الشخصية الإنسانية التي سبق أن
أشرنا إلى أنها مقابل الشخصية البهيمية، بمعنى أن النزعة البهيمية يقابلها النزعة
الإنسانية. فالبهائم ليس لديها عقل، بل لديها غرائز تسيرها. فإذا البشر لديهم مسلك
عقلاني يحدد الصح والخطأ، والخير والشر، والحق والباطل، أما لدى البهائم فلا يوجد
هذا التمييز، فعندما يسير الإنسان وفق هذا التمييز يتطور، وعندما نقول تطورت
إنسانية الشخص، أي تطورت قابلياته، فعندما تطو إنسانية الشخص، تتطور كل قابلياته
التي تميزه عن البهائم، فمثلا البهائم ليس لديها علم أو طموح أوإلتزامات وواجبات
وعادات وتقاليد وغيرها الكثير من الصفات التي تميز الإنسان عن البهائم.فإذا
الإنسان عندما يسلك الإنسان مسلكا إنسانيا أكثر، سارت معه تداعيات هذا المسلك، أي
تقوى عنده كل الصفات الإنسانية، لاحظوا مدى أهمية المسألة، فيصبح الإنسان أذكى
وأنبه وشخصيته أقوى ويزيد بعد نظرته، تصبح سرعة البديهة لديه أقوى، وحضوره
الإجتماعي أقوى، وهكذا كل الصفات الإنسانية ترتفع لديه وتترمز أكثر.
فالمسلك العقلاني جزء مهم في تركيز الصفات
الإنسانية أو بالإرتفاع في الطبيعة الإنسانية، وبالمقابل، وإن كان عودا على بدء
ولكن فقط لتوضيح الفكرة، إذا سار الإنسان وفق المسلك الأهوائين أي ما يرتضيه هوى
النفس، فكما نعلم النفس أمرة بالسوء، فتأمرك بإضاعة الوقت وتأجيل تأدية الواجبات،
عندها يصبح لدى الإنسان شيئا فشيئا حالة من الإقتراب نحو النزعة البهيمية،
فالبهائم تسير وفق غرائزها فلا تهتم سوى بالطعام والشراب والنوم وإضاعةالوقت والمحافظة
على النوع، وبالتالي ليس لديها الصفات الإنسانية. فالإنسان غذا سلك المسلك
الأهوائي، وأصبح لا يهتم سوى بالأكل والشرب والنوم وإلى ما هنالك، أصبح عدوانيا على سبيل المثال، فالعدوانية صفة بهيمية كما الأذى
وقلةالأخلاق والأنانية،
هذه كلها صفات بهيمية، لذلك نجد أن الصفات الإنسانية بدأت تموت لدى هذا الإنسان،
فنجد أن ذكاءه يخف وكذلك نباهته، وحضوره الإجتماعي يخف، تخف نظرته إلى البعد
وتحليله للأمور وغيرها من الصفات الإنسانية.
لذلك فالمسلك العقلاني يقوى النزعة الإنسانية
والتي بدورها تعزز الصفات الإنسانية التي تميز عن البهائم، فتقوى شخصية الإنسان،
فالمسألة إذا نسبية، فالمسلك العقلاي في الحقيقة أهم عامل لتطوير النزعة
الإنسانية، كيف يجب أن أعمل وماذا يجب أن أعمل، فعندما نسير وفق المسلك العقلاني،
فالعقل يقول لي صحيح أنك تشعر بالتعب، أو هوى النفس يقول لك لا تعمل، ولكنك يمكنك
أن تعمل كذا وكذا وينبغي عليك ذلك، فالمسلك العقلاني يخالف هوى النفس وإرادتها.
ولكن لا مانع أن يجتمع المسلك العقلاني مع الأهوائي في مورد معين، مثلا إذا كان
الإنسان يجلس على سفرة طعام، ورأى الإنسان الطعام الطيب والنفس إشتهت هذا الطعام،
غهنا العقل لا يمانع أن تأكل الطعام الطيب، ولكن متى يمنع العقل، إذا كان هذا
الطعام يسبب له الضرر، أو فب حال أفرط الإنسان في الأكل أكثر من الحاجة، أو إدخال
الطعام على الطعام وما أشبه، بالرغم من كون الطعام طيب. فبمورد معين يجتمع المسلك
الأهوائي والعقلاني، بينما يفترقان في بقية الموارد ويتعارضان.
المختصر المفيد أن الموجه خلال الأداء اليومي من الفجر إلى
آخر النهار هو العقل، فهو الذي يحدد لي أي عمل أعمل ،وهذا ما نسميه المسلك
العقلاني، أما سؤال كيف نحصل ونحصن هذا المسلك
العقلاني؟ ،والذي هو موضوع شديد الأهمية، فهو الذي يتحكم في أدائنا اليومي،
وأنا أرى أن المجتمع الحضاري هو ذاك المجتمع الذي يسير وفق المسلك العقلاني
،والإجابة على هذا السؤال المهم ستكون في الحلقة القادمة إنشاء الله.
والحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق