الحلقة السادسة
أعوذ بالله من الشيطن الرجيم، بسم
الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآل محمد.
عنوان اليوم سيكون الشخصية الفيضية يقابلها
الشخصية الفرضية. أما منشأ العنوان فهو،
أن الإنسان عندما يريد أن يكون له حضور في المجتمع، فأي
حضور عليه أن يبرز؟
طبعا المقصود بالفيض هو أن تتجلى على الإنسان
شخصيته وقدراته بشكل طبيعي وإنسيابي، بمعنى أنه بمقدار ما يَملُك يَملِك، يعني
بمقدار ما يملك من مواهب وقدرات وطاقات فهو يملك من رصيد عند الآخرين. ويقابل ذلك
الشخصية الفرضية، والمأخوذة من كلمة فرض، فصاحب تلك الشخصية يتمحل الوسائل
والمحاولات لأجل أن يثبت حضوره في المجتمع.
الشخصية الفيضية هي شخصية تنبئ عن نفسها بنفسها، صاحبها لا
ينبئ عنها، بل نفسه تنبئ عنه.
الشخصية الفرضية يغلب عليها التكلف
والتصنعوتمحل الوسائل الإعلامية منها والمادية
والإجتماعية، لأجل أن يثبت نفسه وحضوره. بمعنى آخر هناك ناس لا تبرز بشكل
طبيعي، و عندما تتحدث للآخرين تلجأ لنوع من التكلف والتصنع، ظنا منها أنها إن لم
تفعل ذلك فلن يكون لها حضور، سواء كان في محتمع أو مجلس أو أي مكان. أما الشخصية
الفيضية فلا، فهي تنبئ عن نفسها بنفسها. فالإنسان مثلا الذي لديه مستوى من العلم، من القدرات،
من الطاقات، من خلال حديثه يترك أثرا، تتجلى
طاقاته بحديثه وتصرفاته،
بطبيعته العفوية بكل ما للكلمة من معنى. وهذا الأمر نجده مثلا على مستوى الحملات
الإعلامية لكثير ممن يترشحون للإنتخابات، فنجد لديهم حالة من التملق والتمحل، تملق
للناس وتمحل للصفات والطرق، لأجل أن يظهر نفسه ويبين بأنه إنسان له وجود، وخصوصا
عندما يكون في حالة تنافس مع الآخرين.
أما الفرد صاحب الشخصية الفيضية، فهو يكسب إحترام الناس وتقديرهم من دون أن
يبدو عليه أنه يسعى لذلك، فنحن أمام عملية فيض وليس فرض، والفيض كالعين الجارية
التي تنبع من الأرض فهي تفيض، اما أن تفرض على الأرض سحب المياه، فأنت والحال هذه
تتمحل الوسائل والطرق لأجل أن تسحب الماء من باطن الأرض، فعلى الإنسان أن يكون
نبعا وعينا وليس بئرا إرتوازيا.
أعتقد أن المسألة أصبحت واضحة، فنحن في عصر
فيه من الإدعاء الذي أحيانا كثيرة لا يكون في محله، ونرى هذا الأمر كثيرا فتجد
إنسانا يدعي العلم وهو ليس بعالم، أو يدعي الخبرة وهو ليس بخبير، فلا يضع نفسه في
المكان المناسب كما ينبغي. وفي بعض الحالات تتم سرقة إنجازات الآخرين ، من باب
الإدعاء أمام الآخرين. فنجد شخص يدعي إنجازا ما في قضية معينة، في حين أن صاحب
الإنجاز هو شخص آخر. ولدينا حالات كثيرة من سرقة الإنجازات عبر التاريخ، ففي بداية
الحضارة الغربية إدعيت الكثير من الإنجازات، والتي في الحقيقة ليست لهم، وهنا وفي
حالة سرقة الإنجازات، ومن باب توضيح الحقائق لا أكثر، يجب ان يفصح الإنسان عن صاحب
القدرة الأساس، وصاحب القوة الأساس والمقدرة الأساس، من باب توضيح الحقائق فقط
وليس من باب إثبات الحضور، ولدينا أمثلة كثيرة في هذا المجال، فنرى شخصا ما على
سبيل المثال، ينفذ مشروعا ويبذل فيه الكثير من الجهد، ويأتي شخص آخر ويدعي أنع هو
الذي نفذ المشروع، وهذا الإدعاء هو سرقة لإنجازات الآخرين، وهنا في هذه الحالة يجب
على الشخص التوضيح، حتى لا تُغرى الناس بالجهل، ومنعا لتضليل الناس، وهناك فرق في
النوايا بين نية الشخص إثبات الحضور وبين نيته تبيان الحقيقة، هناك فرق كبير في
الصياغة والأسلوب والطريقة. فمثلا عمليات المقاومة في الجنوب في بداياتها حاول
البعض أن يدّعيها، ففي الحقيقة هذا نوع من سرقة إنجازات الآخرين، وهو من أبشع
أنواع السرقة، وبالأخص إذا كان الإنجاز متعوب عليه ورصد له ثمرات عمر وجهود، ليأتي
بعدها شخص يحاول مصادرة هذا الإنجاز.
وعلى سبيل المثال قرأت في أحد الكتب أن علي
بن أبي طالب(ع) كان يترحم على أبي بكر ، وعندما توفي أبو بكر جاء علي وقال: "رحمك الله يا
أبا بكر، لقد كنت أول قوم الإسلام، وأصدقهم إيمانا وأخلصهم لدين الله"
. فشعرت بأني قرأت هذه الرواية سابقا وحاولت أن أتذكرها، فتبين أنها مسروقة من
رواية أخرى عن أسيد ابن صفوان تقول أنه عندما استشهد أمير المؤمنين(ع)، جاء رجل
وأمسك بعضاضة الباب وقال"رحمك الله يا أبا الحسن ، لقد كنت أول القوم إسلاما،
وأصدقهم إيمانا وأخلصهم لدين الله، رحمك الله يا زوج اليتول، يا صهر الرسول..."،
فخصوصيات الإمام في كونه زوج البتول وصهر الرسول محذوفة في الرواية المسروقة، هذا
مثال على الإدعاء، وهناك مثل آخر وهو رواية "متى
استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" ، فهذه الرواية هي في
الحقيقة لأمير المؤمنين(ع) وقد نسبت لعمر بن الخطاب. فإذا الإدعاء من خلال نقل
النص من مكان لآخر، وتمحل إثبات الحضور بأي طريقة وأي وسيلة، هو في الحقيقة ديدن المنتفعين والمنافقين
والدنيويينوأصحاب
السلطة والسياسة وكل من له غرض في التسلط على الناس أو إثبات حضوره بينهم.
فالشخصية الفيضية إذا تعمل بجد واجتهاد، وبالتالي هذه الشخصية
تحاول أن تثبت نفسها بنفسها بمقدار ما تعمل، فلا يدعي الشخص على سبيل المثال أنه
يحمل شهادة دكتوراة وهو لم يحصل على الإجازة مثلا، وتتبين حقيقة هذا الشخص من خلال
تصرفاته وكلامه الذين لا يعكسان إدعائه، وكذلك الحال بالنسبة لباقي المستويات من
البشر في تنفيذ المشاريع وهلم جرا. فعندما يتعرض الإنجاز لمحاولة سرقة يجب
التوضيح، فقط لأجل التوضيح.
وفي الختام، فإن شخصية المؤمن هي شخصية فيضية وليست
فرضية، فلا داع للمؤمن أن يثرثر كثيرا، ويتعالى على الآخرين، ويحاول أن يظهر بأنه
أعلم من الغير، وإنما يجب أن يبدو بنفسه حتى يصبح مرغوبا أكثر، وذلك لأن صفات
الشخصية الفرضية مبغوضة وممجوجة وغير مستحبة، أما عندما يبرز الإنسان بشكل طبيعي،
فإنه يصبح مرغوبا أكثر ومحبوبا أكثر، فمن الأخلاق أن تكتشف الناس الإنسان وليس أن
يكشف الإنسان عن نفسه تجاه الناس.
ونسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق،
والحمد لله رب العالمين.
الحلقة السابعة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه
نستعين، اللهم صل على محمد وآله الطاهرين
عنوان موضوع اليوم هو نزهة الإنتماء، وما زلنا في خضم عناوين المنطق التربوي
الفردي.
يقول الرسول(ص):" لقد
أذهب الله عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية، وتفاخركم بآبائكم، ألا إن الناس جميعا من
آدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم". وهذه المسألة وردت في
كثير من أحاديث الرسول (ص)، وهي مسألة أخذت من مجهود الرسول ردحا من الزمن، وجاءت
بالكثير من المشاريع التي تحاول أن تمحي الفروقات بين المسلمين، من قبيل مشروع
المآخاة، ومشروع إستقبال المهاجرين المسلمين في المدينة المنورة، والكثير من الأحاديث
والروايات تؤكد على هذا المعنى، محو رابطة الدم بين المسلمين، وأن لا يتعصب
الإنسان للإنسان بسبب رابطة النسب أو رابطة الدم.
طبعا هناك فرق بين صلة
الرحم والنزعة القبلية، فصلة الرحم
مستحبة شرعا، وتبدأ الصلة من البيت الواحد، من الأخوة، وتخف عند الأعمام والأخوال،
وتخف أكثر عند الأنساب من أبناء الأعمام والأخوال، ثم تكاد لا توجد أبعد من ذلك.
صلة الرحم موجودة ولكن حسب حيثياتها وموقعها، فالإنسان يصل أخاه، يصل عم أو إبن
عم، بخلاف ما يصل شخص بعيد تربطه به صلة قرابة عن طريق الأجداد أو ما شابه، حيث
توجد صلة رحم إلا أنها بعيدة، فيحتاج إلى زيارته مرة في السنة على سبيل المثال،
ويكون ذلك كافيا. بينما في النزعة القبلية، يصبح كل إشتراك في هذا اللقب، والموضوع
يتواجد خصوصا على صعيد العوائل والعشائر، يجعل له من الحقوق ما لكل من يملك هذا
اللقب، فيقال مثلا أنا إبن العائلة الفلانية أو
العشيرة الفلانية فلي من الحقوق مثل ما لغيري من أفراد هذا اللقب أو العشيرة. فهنا
المسألة أصبحت مختلفة كليا. فصلة الرحم هدفها الحفاظ على النزعة الفطرية الطبيعية
في عاطفة الإنسان تجاه والده، تجاه أخوه، تجاه شقيقته، تجاه عمه أو خاله
وهكذا،هناك شعور فطري بالقرب، لا يستطيع الإنسان أن يتنكر له، وهناك قاعدة عامة في
الإسلام أن لا يجوز التنكر لشعور فطري مزروع بالفطرة، أي أن الإنسان يقترب من
القريب ثم الأقل قربا فالأقل وهكذا بشكل
طبيعي، كذلك الإنسان يحزن على القريب ويفرح له بنفس النسبة، ولذلك عندما استشهد
حمزة في معركة أحد، وبكى المسلمون على قتلاهم، قال رسول
الله(ص) "أما لحمزة من بواكي"،
أي من يقترب منه ويبكيه، وذلك حفاظا على الفطرة. فمنع الفطرة كليا هو من الخطأ
الجسيم، فالله سبحانه وتعالى هو خالق هذه الفطرة، فالإنسان مثلا يشعر بفطرة
العاطفة تجاه الوالد والوالدة بشكل طبيعي، ولا يستطيع التنكر لهذا الشعور، وإلا لا
يصبح الإنسان إنسانا. فإذا صلة الرحم هي صلة فطرية كليا وليست من صناعة الإنسان.
أما النزعة القبلية، فهي عبارة عن مفهوم أوسع، والمسألة وليست
مسألة قبيلة بل مسألة إنتساب إلى مطلق عنوان. فلدينا النزعة القبلية التي لها
علاقة بالدم أو النسب، والنزعة المجتمعية أي الإنتساب إلى مجتمع، وهي لها علاقة بالجغرافيا، بالعرق،
باللغة، باللون،
بالمذهب، وبكل
عصبة يكمن أن يحس الإنسان أنه ينتمي إليها، كل
عصبة وكل دائرة، وتتسع هذه الدوائر وتضيق، لذلك من السخافة أن نقول أن هناك
دائرة معتبرة إنسانيا أياً كان موقع هذه الدائرة، فلا نعترف لا بالدائرة الجغرافية ، ولا
بالدائرة المذهبية، ولا بالدائرة العرقية،
لأن هذه الدوائر لا تنتهي. وكان لدي حوار مع أحد القوميين السوريين، فسألته لماذا
تعتقدون بالوطن القومي السوري، فأجابني لأن هذه المنطقة حضاريا يوجد فواصل طبيعية
بينها وبين جيرانيها، فالبحر من الغرب مثلا، والصحراء من الجنوب والشرق، وجبال
زاغروس في الشمال والغرب وهكذا. ونحن في هذه الحالة خلقنا حواجز، ولو إعتمدنا هذا
الأسلوب، فسينتج لدينا على سبيل المثال شمال النهر وجنوب النهر، وفي لبنان مثلا
سلسلة جبال لبنان الشرقية والسلسلة الغربية، وفي وسط فرنسا سلسلة جبال الألب قد
تشكل فاصلا، أو جبال همالايا وهكذا، فهذا كلام غير منطقي وغير صحيح، فإذا أراد
الإنسان أن يطلق العنان لنزعة الإنتماء بشكل عشوائي، فلن يجد نهاية لذلك، فنزعة
الإنتماء لا تقف عند حد أبدا، فلا يُعترف بها لأنها غير فطرية، فالإحساس بالإنتماء
أمر فطري صحيح ، إنما حدود هذا الإنتماء أمر غير فطري. وبما
أن الإنتماء هو فطري، فبأي امر نربطه؟ نربطه بالإنتماء الديني الإنساني
فقط، وليس أكثر، فقط هذا الإنتماء الذي نعتد به ونحترمه ونفتخر به، ولا أكثر من
ذلك ولا أقل، بحيث لا تؤثر فيه لا فواصل التاريخ ولا الجغرافيا ولا غير ذلك.
فإذا نزعة الإنتماء في الحقيقة إذا استثمرت
إستثمار جيد تؤدي إلى سعة الوطن الكبير، والإنتماء الكبير إلى الإسلام الذي هو
بالنسبة لنا الإنسانية، ومرادف لها. أما إذا استغلت بشكل سيء، ومن قبيل فرق تسد،
تصبح نزعة الإنتماء نزعة تفريق وتدمير، مثلما إستعملها الإستعمار قديما. وكما سبق
وقلت، فالرسول (ص) جهد في محاربة هذه النزعة، وسئل في العديد من المرات عن موضوع الإنتماء،
فقالوا له يا رسول
الله أمن العصبية أن يحب الإنسان قومه؟، فهم مازالوا يشعرون بهذا الشعور
ولم يستطيعون الخروج منه، فقال الرسول(ص) لا، ليس من العصبية أن يحب الإنسان قومه، بل من العصبية أن
يفضّل شرار قومه على الآخرين. أي أن المسألة إنسانية، ومسألة حق وباطل،
ومسألة حسابات موضوعية لا أكثر ولا أقل. وهكذا دواليك بالنسبة لكم هائل من
الأحاديث لست بصدد عرضها، وكلها تدل على أن الرسول قد بذل مجهود غير عادي لأجل القضاءء
على هذه النزعة.
ونحن
في هذه الأيام في أشد الحاجة لنبذ هذه العصبية، وخاصة في بعض الدوائر المحددة في
مجتمعنا حيث توجد هذه النزعة بشكل كثير الإزعاج، إلى درجة يشعر معها الإنسان أنه
في أيام الجاهلية الأولى، وليس في عصر الحضارة.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحلقة الثامنة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه
نستعين، اللهم صل على محمد وآله الطاهرين
ما زلنا في عناوين المنطق التربوي، وسنتكلم
اليوم في موضوع الغضب.
للوهلة الأولى قد يخيل أن هذا الموضوع هو
موضوع أخلاقي أي من الأخلاقيات، بينما هو في الحقيقة من الموضوعات التربوية الصرف،
ولا يخضع للقواعد التربوية، بل يخضع للمنطق التربوي.
ونعود ونذكر بشكل مختصر بالفرق بين المنطق
التربوي والقواعد التربوية، فالقواعد التربوية تتناول الواقع كما هو وتبرمجه
وتقسَمه، وبالتالي تكون المعالجة بحسب
الواقع الموجود، أما المنطق التربوي فلا تكون المعالجة بحسب الواقع الموجود بل بحسب المضمون الإنساني
بماهو هو كإنسان، بغض النظر عن أي بيئة أو تربية أو ظروف يخضع لها الإنسان،فهو
خاضع، أي الإنسان، إلى جملة خطوط عريضة لا يستطيع أن يخرج عنها كإنسان أبدا، وهذا
ما نسميه المنطق التربوي. وعرّفناه وقتها بأنه عبارة عن الأسس الدافعة للفعل ورد
الفعل، وهي أسس أنسانية موجودة بالفطرة تدفع للفعل أو إلى رد الفعل. والغضب هو من جملة هذه
الأسس باعتبار أن كل إنسان فيه شائبة الغضب، وهنا الشائبة ليست بالمعنى السلبى، بل
بمعنى أن كل إنسان فيه قابلية الغضب وإستعداد له، كل إنسان على الإطلاق. وفي حديث الرسول (ص): "من
استغضب ولم يغضب فهو حمار"، ليس المقصود أن الغضب حسنة بأي شكل كان،
بل أن الغضب هو طبيعة إنسانية، ولا يستطيع الإنسان أن يتخلى عن غضبه. فالمشكلة
ليست بوجود الغضب كغضب، بل في تظهير هذا الغضب، أي كيف يظهر هذا الغضب، بأي شكل
وبأية طريقة. فعلى سبيل المثال عندما تعرض على الإنسان مسألة تغضبه، نرى أن ظهور
وتجلي هذا الغضب تكون بعدة أشكال، فمنهم من يواجه بحالة إنفعال شديدة وحالة العصاب
الشديد، وتزيد عصبيته، ومنهم من يواجه بشكل عنفي ، ومنهم من يواجه بانكفاء وإنزواء
كحالة من أخذ الموقف ولكن بطريقة هادئة، ومنهم من يعالج بطريقة ميدانية، ويواجه
الموقف في لحظته، بأسلوب كيف ولماذا، وبالتالي هناك عدة أشكال للغضب. طبعا الأمور
ممكن أن تتطور نحو السلب إلى أبعد حدود، وشذ وندر أن نرى شخصا لا يغضب أبدا، وإلا
تكون شجيته الإنسانية ضعيفة.
فإذا لنتفق على مسألة وهي أن الغضب مطلوب،
والغضب أمر حسن، والإنفعال أمر حسن بالمعنى اللغوي العام الصرف، إنما كيفية
الإنفعال فهو الموضوع الذي سندرسه اليوم. فأن نرى إنسانا لا ينفعل لأجل قضية سالبة
ظالمة، أو لحصول منكر في البلد، أو أمر لا يرضاه العقلاء وأصحاب الناموس، فهذا أمر
غير جيد، لذلك الحديث الشريف يقول:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن
لم يستطع فبقلبه"، فما المقصود بقلبه، المقصود أن يكره هذا المنكر،
وأن يتولد لديه عامل داخلي تجاهه، أما إذا
لم يتولد هذا العامل، تنمسح شخصيته الإنسانية، ولا يعود إنسانا، أو يصبح إنسانا
مستعبدا، إنسان مهضوم الحقوق كليا، وبالتالي يأتي الإنسان الذي هو أقوى منحه
ويسحقه ويكمل مسيره.
فإذا المسألة الأولى التي اتفقنا عليها هي أن الغضب بذاته ليس
أمرا مستقبحا، لأنه مسألة إنسانية، أما الغضب بمعنى الخروج عن الطور العقلاني،
فهذا شعبة من الجنون. بمعنى أنه لدينا غضب عقلاني
وغضب غير عقلاني. فعندما
يكون الأمر لاعقلاني ماذا يكون؟ يكون خلاف العقل وهو الجنون، فكما عبر عنه
أمير المؤمنين (ع) بأنه شعبة من الجنون، أي في أثناء الغضب الإنفعالي العنفي سواء
بالفعل أو بالقول فهذا شعبة من الجنون لأنه يحمل حالة عنفية، وهذا هو الغضب
المرفوض. فإذا تظهير الغضب شيء ونفس الغضب شيء آخر. أما كيفيية المعالجة، فهذه
المسألة تحتاج إلى ترويض.
فأمير المؤمنين (ع) يقول "دع ما لا
يهمك إلى ما يهمك"، وهنا بين هلالين هناك مسألة، أن أحاديث أهل
البيت(ع) تؤسس لقواعد عامة في الفكر لها عدة أمثلة ومصاديق وإنعكاسات، فعلى سبيل
المثال القاعدة السابقة الذكر "دع ما لا يهمك
إلى ما يهمك" ومعنى ذلك أن
الحياة بشكل عام تنقسم الأشياء فيها إلى قسمين، قسم مهم وقسم غير مهم، فعلينا أن
نستبعد الأشياء الغير المهمة وأن نذهب إلى الأشياء المهمة. وكذلك الأمر عندما تُطلب
الكياسة والفطنة من الإنسان، "المؤمن كيس فطن"
حسب رواية الرسول(ص) . فإذا نحن إنتقلنا من غير المهم إلى المهم، ولكن هذا المهم كيف يعالج؟ هنا المشكلة.
إن أكثر حالات الغضب العنفي التي تحدث بالقول أو بالفعل،
إنما تحدث بسبب توهم أهمية الأمور، بحيث يعتقد الشخص انه إذا لم يبدي هذا المستوى
من الغضب العنفي، فسيتعرض لسرقة حقه وضياعه. ولكن أفضل طريقة هي تصنيف الأمور إلى
غير المهم والمهم، وكذلك نفس المهم بذاته ينقسم إلى قسمين، قسم المهم الذي له صفة
الواجب الموسع والهم الذي له صفة الواجب المضيق، بمعنى أنه هناك أمور مهمة تحتمل
التأخير، وأمور لا تحتمل التأخير. فعلى سبيل المثال، ترى الشخص، في حال ضاق وقت
الصلاة، يتوضأ بسرعة ويصلي بسرعة حتى يدرك الوقت، وهكذا الحال في بقية العبادات
المؤقتة، أما في حال وجود شخصين يتبدلان الحديث وسمعا الآذان فإنهما يكملان
حديثهما ولا يستعجلان للصلاة باعتبار أنه لديهم متسع من الوقت للصلاة. والأمر نفسه
في الأمور المهمة، فأنا لا أعطي أهمية للمسألة مباشرة عندما تعرض، لا ليس كذلك، بل
أتروىو أفكر في المسألة لأقدّر إذا ما كانت مهمة أم لا، فإذا لم تكن مهمة أضعها
جانبا وأنسى امرها، أما إذا كانت مهمة فعلي أيضا أن أصنفها بين عاجل أم آجل، فإذا
كانت المسألة من قبيل الآجل فأأجلها وأفكر فيها على مهل، أما إذا كانت عاجلة وعليّ
معالجتها ميدانيا وفي لحظة وقوعها ، فهنا محل الشاهد، ففي هذه الحالة عليّ أن أبقي
في ذهني مسألة وهي أن الغضب الذي أشعر به ليس حالة واقعية، وهذا الأمر يحتاج
لترويض، فيشعر الإنسان أن لديه طاقة يحتاج لإخراجها، وقد يشعر بلذة الغضب ولذة
إخراج هذه الطاقة، فيستمر بالتنفيس عن هذا الغضب إلى أن بعد فترة يعود ويلوم نفسه
بأنه ما كان يجب أن يتصرف هكذا ، ويكتشف أنه أخطأ.
وهنا لدينا مسألة، هل أن الغضب
هو حالة فيزيولوجية فقط، أم أنه حالة عضوية،
وما هو بالضبط؟ ففي حالة الغضب قطعا ترتفع
نسبة الأدرينالين، ويطرأ وضع بدني خاص يشعر معه الإنسان بأنه يجب أن يتصرف
بالطريقة التي تصرف بها، وأنه محق يهذا التصرف إزاء هذه الحالة، بينما في الواقع
هذا ليس صحيحا، والدليل على ذلك أنه بعد انتهاء حالة الغضب، وبعد أن تبرد أعصابه، يشعر
بالندم، وقد يعترف الإنسان بهذا الندم وقد لا يعترف، ولكن في الحالتين هناك ندم
حاصل، وهذا الندم ماذا يكشف، يكشف على أن الواقع الذي كان يتوهمه الشخص بأنه يجب
أن ينفعل ويغضب هكذا كان وهما ولم يكن واقعا.
فإذا أصبح لدينا تصنيفين
الاول: المهموغير المهم، والثاني:
العاجل والآجل،
والتصنيف الثالث هو أنه علي أن ألتفت إلى نفسي
أثناء الغضب بأنني لست في حالة واقعية، وبالتالي أن أعالج الأمور بعقل بارد قدر
الإمكان. وهذه السلسلة من المعالجة تضعنا أمام مسؤولية ترويض النفس، حبيث تتروض
النفس مرة بعد مرة، وهنا اريد أن أضيف شيأ وهو أنه إذا استطاع الإنسانأنيروض نفسه،
يحس لاشعوريا بأن شخصيته أصبحت مؤثرة أكثر ونافذة أكثر، وأقدر على استكشاف الامور.
وهذا الأمر يحتاج إلى ترويض عند كل حالة غضب، وما أكثرها في مجتعاتنا وواقعنا
المعاش، ونسأل الله سبحانه وتعالى المغفرة والتوفيق،
والحمد لله رب العالمين.
الحلقة التاسعة
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد
لله رب العالمين
اللهم صل على محمد وعلى آله
الطيبين الطاهرين
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه
الكريم:" إن الإنسان خلق هلوعا إذا مس الشر
جزوعا وإذا مسه الخير منوعا" صدق الله العلي
العظيم. سيكون اليوم كلامنا حول الأنانية عند الإنسان، والإنانية عنوان مهم
جدا، له وجود في عالم التربية، وله وجود في عالم الفلسفة
أو الانتروبولوجيا، وكذلك له وجود في
ما يسمى بالعرفان والأخلاق. فالإنانية إذا موجودة في كل العناوين التي تهتم
بالإنسان كإنسان.
أولا، الآيات الكريمة التي تقدمت تدل على أن
الإنسان حريص، خلق الإنسان هلوعا، وهلوعا بمعنى الهلع و الخوف، إذا مسه الشر
جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، فإذا طلب أحد منه الخير تجده حريصا ، ولا يبذل
بسهولة، وبالتالي يصبح هذا الإنسان حريصا على نفسه، وبالتالي هناك حجم من الأنانية
الفطرية، فهل معنى ذلك أن الأنانية أمر قبيح أم لا،للوهلة الاولى عندما نصف إنسان
بأنه أناني يتبادر لذهننا صفة الانانية بالمعنى السلبي القبيح، والذي توبخ الناس
والعقلاء عليه، ولكن إذا أمعنا النظر بالموضوع أكثر، نرى أن الأنانية معنى فطري
قبل أن تكون معنى مكتسب، وكل شيء يكون فطري تكون له مصلحة إلى حد ما، أي فيه خير
إلى حد ما. فلنعطي بعض الأمثلة على بعض الأمور الفطرية على سبيل المثال، كل نفس
على ذاتها بصيرة، الخوف من الموت مثلا أمر فطري، الخوف من الهلكة أمر فطري، عدم
القناعة وزيادة الطموح أمر قد يكون فيه شيء من الفطرة، فليس كل شيء رسخ في أذهاننا
على أنه شيء قبيح هو قبيح، فهذا كلام غير صحيح، لأنه موروث بالفطرة، وما عاذ الله
سبحانه وتعالى أن يكون من الظالمين، كأن يجعل الله الإنسان أنانيا ثم نأتي ونقول أن الأنانية أمر غير جيد، فهل جعل الله في الإنسان
أمر غير جيد، فهذا كلام خاطئ. لذلك تعالوا لنرى ما هو الجيد في الأنانية وما هو
السيء. طبعا الأنا تنقسم إلى قسمين، فهناك الانا السلبية والأنا
الإيجابية. فعندما يكونالإنسان طموحا يسعى لتحصين نفسه بالعلم، بالثروات،
بالخبرات، بالصحة،
بالمعرفة، بالتواصل
الإجتماعي، بالقوة وكل مقدراتها، وهذه
الأنانية ممدوحة بحد ذاتها، فكما يقول رسول الله (ص) "إن المؤمن القوي خيرا عند الله من المؤمن الضعيف".
كلما إستطاع الإنسان أن يمتلك من مقدرات القوة المادية والمعنوية والنفسية، فلا
مشكلة أبدا، بل بالعكس، فهذا ما الله سبحانه وتعالى قدّر الإنسان عليه، بمعنى أنه
جعله قادرا عليه، وقدره عليه أي جعله قدره، بمعنى أن الخلقة والفطرة تطلب هذا
الامر، ولكن سبحان الله، كل شيء له جانب آخر أو جانب سلبي، حتى في الأشياء التي هي
بالعناوين الأولية جيدة وحسنة. على سبيل المثال
الأخلاق الحسنة، هي أمر جيد أم لا؟، هي أمر جيد،
ولكن هل نستطيع القول انه جيد بالمطلق؟ سؤال يطرح نفسه،كذلك الصدق امر جيد أم لا؟ هو أمر جيد، ولكن كذلك
الأمر، هل هو أمر جيد بالمطلق؟ وفي المقابل،
الكذب أمر سيء، ولكن هل هو سيء بالمطلق؟، لعل
البعض قد يستغرب هذا الامر. ولكن هذ أمر طبيعي، ففي الحديث الشريف "ما من شر إلا وإلى جانبه خير"، حتى الإبتلاءات
الكبرى، حتى الموت وفقد الأعزة، هو شر ولكن يوجد إلى جانبه خير. فتأتي هنا مسألة
التقدير والتدبير، فالقوة أمر حسن ولكنها إذا استقوت على الضعيف تصبح أمر قبيح،
الصدق كذلك أمر حسن، ولكنه مع الأعداء أمر قبيح، الكذب مثلا أمر قبيح، ولكن الكذب
على الأعداء في حالات الحرب مثلا ، هو أمر مستحسن.
إذا لوافترضنا أردنا أن ندفع عن الإنسان مكروها محققا، وتوقف ذلك على كذب ما ضمن
حدود، فهنا إذا ترتب عن الأمر دفع الفسدة عن أخ مؤمن مثلا، والمفسدة ليست بمعنى
تعرضه لإهانة أو ما شابه، لا ليس الأمر كذلك، بل دفع الضرر الذي لا يحتمله العقلاء
كالإضرار بالنفس، أو إضرار هائل بالمال إلخ، ولكن بشرط أن يكون له وجهة حق، فلو
توقفت هذه الأمور على الكذب، فقد تنقلب الحرمة إلى الوجوب، ويصبح الكذب واجبا
بمقداره.
فإذا ليس كل شيء بالمطلق، فليس هناك خير
بالمطلق، وليس هناك شر بالمطلق، إلا في أمر واحد فقط، وهو مفهوم نسبي، ونتحدث هنا
عن العدل، العدل بالمطلق حسن، فكل شيء فيه عدل حسن، فلا يوجد عدل قبيح وعدل حسن.
ويقابله الظلم والذي هو أمر قبيح بالمطلق. فحسن العدل وقبح الظلم، فيهما بالإطلاق
حسن وقبح.
فإذا الأنانية تعني أن يكون الإنسان حريصا على نفسه، والحرص بحد
ذاته ليس شرا بالمطلق، إنما هو خير بمقدار، فالإنسان يحافظ على ملكاته وطافاته،
وهو حريص على حياته، وبسبب هذا الحرص تعمر الحياة وتعمر الحضارات ويصبح لدينا
طموحات، وسبحان الله، يسلك الإنسان والحال هذه فورا سبل التطور والإرتقاء. فإذا
الأنانية التي توصل إلى خير الإنسان هي أمر حسن. أما الأنا السلبية، وهي الأنا
التي تتصف بصفات تمنع الخير في موقعه، تمنع التضحية في موقعها، تمنع التعاون في
موقعه، والتكاتف في موقعه وهكذا. كأن أجد إنسان بحاجة إلى مال، وأنا لست بحالة
إعسار، إلا أنني أمنع نفسي من العطاء، وأنا أعلم أن هذا الإنسان يستأهل العطاء. أو
مثلا أن يطلب إنسانا العون ولا اعينه، فهذا كذلك
نوع من الأنانية. وكذلك في حال أراد إنسان أن يتمتع بنفوذ السلطة، ومارس ممارسات
تخرج عن أهليته الخاصة، بحيث تعدى على الأخرين وأغلق الطريق أمام وصولهم وتقدمهم،
كحال السياسيين في أغلب الدول، فهذا كله نوع من الأنانية السلبية. وأكثر الأنانية
إفراطا، هي عندما يكون الإنسان أنانيا بحق المقربين إليه وخصوصا أقرباء الرحم، كأن
يكون أنانيا بحق الأخ والأب والأم، أو كذلك بحق الصديق الذي صادقه فترة من الزمن
ولم يفارقه، فهذ أكثر الانانية إفراطا وتفريطا بحقوق الآخرين.
في بداية البعثة الإسلامية، وعندما كان
الرسول(ص) يحاول أن يجمع المسلمين على بعضهم البعض، نرى أن الرسول(ص) أقام مشروعين
كبيرين، المشروع الأول هو المآخاة بين المسلمين، والمشروع الثاني هو بناء مسجد المدينة الذي كان يجتمع
فيه المسلمين. ومحل الشاهد أن كل رجل من الأنصار ألجأ رجلا من المهاجرين الذين
هاجروا من مكة إلى المدينة، وجعله في عهدته وآخاه، ثم لم يبقى هناك مكانا في بيوت
المدينة، فكان هناك أناس ينامون على صفّة المسجد، أي على مداخل المسجد، حيث كان
هناك نوع من النزوح والتهجير من مكة، وهذه الظاهرة في التاريخ لم يركز عليها
المؤرخون كثيرا، ومحل الشاهد أن إحدى دعائم الإسلام الأولى هي أن الرسول سهر على
نزع الأنانية، فنزعت الأنانية من قلوب الإقطاعيين، حيث كان مجتع المدينة ومكة،
وخصوصا مجتمع المدينة، مجتمع إقطاعي، فكان هناك أسياد وعبيد، ولعلهذه كانت من
أسباب الحرب على الرسول والأصحاب. وكذلك الحال، نزعت نخوة الجاهلية وتفاخرهم
بآبائهم، ونزعت القبلية وخصوصا بين الأوس والخزرج، فحاول الرسول أن ينزع هذه
القبلية والتي هي شكل من أشكال الأنانية، بحيث يكون الإنسان طيّع للدم وليس للمبدأ
ولا للثقافة. كذلك الحال، حاول الرسول(ص) أن يخضع المسلمين إلى ميثاق وقانون
" لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود
إلا بالتقوى". فإذا من دعائم الإسلام الأولى،القضاء على كل شيء كان
يتمسك به الإنسان بسبب أنانيته العشائرية والمالية والسلطوية، كل هذه الأمور حاول
أن يلغيها، ولم يعد هناك في القوم كبير وصغير إلا بالتقوى. وهذا أمر بالغ الأهمية،
وهو الذي أدى لبناء مجتمع أسّس لدولة الإسلام الكبرى في مشرق الأرض ومغربها، والتي
إستمرت إلى مئات السنين وصولا إلى اليوم.
كذلك الحال في أصحاب الأئمة (ع) ، فنأخذ مثلا
رواية علي بن يقطين، الذي كنت عائلته جدا محترمة وموالية لأهل البيت(ع)، ولكن ميزة
علي بن يقطين أنه أصبح وزيرا عند هارون الرشيد فيما بعد، وكان مقارن لزمان الإمام
الصادق(ع)، وكذلك لزمان الإمام موسى بن جعفر(ع). والوزير في ذاك الوقت كان بمثابة
رئيس الوزراء اليوم، فكان هو الذي يدير دفة البلاد وشؤونها، ولم تكن الدوله
الإسلامية دولة صغيرة، حيث كان هارون الرشيد يخاطب الغيمة ويقول " سيري أينما شئت فخراجك في
أرضي" . وعلي بن يقطين كان من المؤمنين، وكانيقول
له الإمام (ع) " يا علي إضمن لي ثلاث
أضمن لك الجنة، أحدها أن يجد المؤمن عندك ضالته، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن
المنكر..."، إلى آخر الرواية. وقد حافظ علي بن يقطين على تلك التوصية
إلى درجة أن الإمام الصادق (ع) كان يقول "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى علي بن
يقطين"، وهذا يبين عظمة هذا الرجل، والمفارقة أن هذا الرجل كان وزيرا
عند هارون الرشيد، وكان متسترا بالتشيع، وتوجد روايات حول طريقة التستر كيف كانت،
وكان الإمام (ع) حريصا على سلامته. وفي يوم إشتكى أحد أصحاب الصادق (ع) إليه بأنه
ذهب إلى علي بن يقطين في حاجة، ولسبب ما لم تقضى هذه الحاجة، ففهم الرجل خطأ أن
علي بن يقطين يتكبر عليه كونه وزيرا. فعندها بعث الإمام إلى علي بن يقطين وأرسل
إليه يقولإذهب إلى ذاك الرجل وافعل ما تشاء حتى يعذرك بما أوجد في نفسه منك، أي
حاول إرضائه بما هو مناسب، حتى يبرد فلب الرجل، فعندها تأسف علي بن يقطين وذهب إلى
الرجل وهو يقول في نفسه لو أراد هذا الرجل أن يدوس على رأسي بقدمه فليكن، ولا ننسى
أن علي كان وزيرا، إلا أن الرجل عذره وكان ما كان. فنلاحظ هنا أن أنانية السلطة
غير موجودة في هذه الرواية.
فإذا هنا توجد مسألة، وهي أحد آفات المجتعات
والعمل الإسلامي بشكل عام، وهي عندما يعتبر الإنسان نفسه فوق مقام الآخرين،
والآخرين دون مقامه. والأمر الاول الذي على المؤمن أن يفهمه هو" أن الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم
لعياله"، والخلق كله أيتام الله، يحتاجون إلى الله سبحانه وتعالى، كما
يحتاج اليتيم للشفقة والرحمة، وكل إنسان من الخلق له درجة من الإستيعاب ومن
المشاعر، لديه خريطة في حياته، وتكوّن على شخصية
معينة، وقد يكون معقد أو سلبي أو إيجابي، بالتيجة علينا إستيعابه،
والأئمة(ع) يطلبون منا ان نكون أعلم الناس بما تفكر الناس، وفي قول لأمير المؤمنين
"أعلم الناس أعلمهم بمشاربهم"، أي
بأفكارهم، حتى تستطيع أن تأتيهم بالطريقة المناسبة لهم.
ونسأل الله تعالى التوفيق، والحمد
لله رب العالمين
الحلقة العاشرة
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله
على سيدنا محمد وآله الطاهرين
يقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة آل عمران بسم
الله الرحمن الرحيم " زين للناس حب
الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة
والأنعام ذلك متاع الدنيا والله لديه حسن المآب" صدق الله العلي العظيم . أحببت أن أستفتح بهذه الآية،
لأن لدينا مسألة " زين للناس حب الشهوات"
، أي أن هذا الأمر موجود بالفطرة، والقاعدة التي اعتمدناها سابقا هي أن كل ما زرع
في الفطرة أمرغير قبيح، ولكنه يصبح قبيحا إذا لم يكن بمقدار، فكل شيء إذا لم يكن
بمقدار يصبح قبيحا حتى الأمور الحسنة، إلا في موضوع العدل والظلم، فكما سبق وأشرنا
فهما أمران فيهما حسن وقبح مطلق، بينما بقية الأمور والصفات سواء أكانت إيجابية أم
سلية يجب أن تكون بمقدار، وهذا الكلام مر سابقا.
واليوم سنتناول قضية " زيّن للناس حب الشهوات من النساء..." ، ويقال
في الآية الكريمة أنه خطاب موجه للرجال. وبعض التفاسير تذهب إلى ارتباط الرجال
بالمشاعر الدنيوية والملذات الدنيوية، وهذه المشاعر والملذات هي عبار عن النساء،
والمال، والخيل المسوّمة، والحرث وهو ما
أنبتت الأرض، والأنعام ذلك متاع الدنيا. وتعبير ذلك متاع الدنيا يعني أن هذه وسائل
الدنيا، والإنسان الذي يعيش فيها يحتاج لهذه الوسائل، والله عنده حسن المآب، طبعا
الله لديه أفضل من ذلك بكثير، ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر.
فالموضوع إذا هو حب الشهوات، هل هو قبيح بالمطلق، أم هو قبيح بمقدار وجيد بمقدار؟
زينة
الحياة الدنيا يجب ان يحصل منها الإنسان على نصيبه، فالله سبحانه وتعالى يقول "ولا تنسى نصيبك
من الدنيا"، ويقول في القرآن الكريم "قل من حرّم زينة الله التي أخرجها لعباده من الطيبات والرزق"
. فنحن لدينا إستنكار لفلسفة الرهبنة عند البعض والإنقطاع عن الدنيا، والانقطاع عن
التواصل بالناس، و عن الطيبات والملذات، لأن الله سبحانه وتعالى خلقها متاعا
للدنيا، فهي وسيلة الدنيا، وكلما كان الإنسان منسجم مع خلق الله تعالى، فهو في
الحقيقة يتفاعل مع هذه النعم ولا يرفضها، فهذه هدية الله سبحانه وتعالى، وكما أن
المؤمن لا يرفض هدية المهدي، كذلك يجب أن لا يرفض هدية الله سبحانه وتعالى.
فنجد
عند بعض المسيحيين أن فلسفة كمال العيش هو بالزهد والرهينة، وما يسمى بمحبسة
الرهبان، فالرهبان يحبسون أنفسهم إلى ماشاء الله من الوقت، ولا يذهبون إلى الناس،
إنما الناس تأتي إليهم، وتاتي إليهم بالزاد والرزق وغير ذلك ، أو قد يعتمدوا على
إنتاج الأرض التي حول محبسة الرهبان. وبالتالي الراهب من هؤلاء لا يتعرف على
الدنيا، فهو يحبس نفسه عنها. وهذه الفسلسفة لها جذور في المسيحية القديمة، والتي
كانت أكثر تطرفا. بيرتراندراسل يقول أن فلسفة القديس بولس كانت
معتمدة على كثرة الإنقطاع عن الدنيا إلى درجة أنه حتى الإستحمام يعتبر من الدنيا،
بحيث انه إذا استحم الإنسان فإنه يدفع بفاصل البدن إلى الخطيئة، وأنه إذا فاحت
رائحة نتانة البدن، فتلك رائحة مقدسة، وإذا ظهر القمل على جسده وثيابه فهذه جواهر
إلهية. وهذه إذا فلسفة مسيحية قديمة الوجود.
إنما
في فلسفة ديننا يختلف الأمر، فالرغبات موجودة،
والشهوات موجودة، والطيبات
موجودة ويسعى إليها الإنسان، وإذا لم يسعى الإنسان إليها، فإنه يسعى خلف
الشيطان. بمعنى أن الإنسان الزاهد الذي لا يعيش حياة طبيعية، هو يترك حقه الطبيعي.
وهذا في الحقيقة مصداق رواية أمير المؤمنين (ع) عندما خاطب ذلك الرجل الذي إصفر
لونه ونحل بدنه بسبب إنقطاعه عن الدنيا وشهوات المأكل والمشرب وغير ذلك، فخاطبه
أمير المؤمنين قائلا "يا عديّ نفسه، هل استهام بك الخبيث" ، أي بمعنى
تلبس بك الشيطان، فإذا رفض شهوات الدنيا ورغباتها بهذا الشكل، بحيث يصبح الإنسان
غير طبيعي، هو أمر مرفوض، ورفض الدنيا بهذا الشكل مرفوض، ولكن في الوقت نفسه، فإن
الإقبال على الدنيا بحيث يصبح الإنسان حريصا عليها إلى درجة توصله إلى الطمع، وإلى
الحسدوالشره، إلى الجشع، إلى العدوان على
الآخرين، فهذه تصبح دنيا مذمومة، أما ما دون الوصول إلى هذه الصفات، فهي دنيا محمودة،
وليس فقط محمودة لا بل مطلوبة.
ففي كثير من عمومات
الأدلة مثلا، خيركم خيركم لأهله، يستحب التوسعة على العيال، من سعادة المؤمن الدار الوسيعة ،والفرس
السريعة، والمرأة المطيعة، المؤمن القوي خير عند
الله من المؤمن الضعيف، فكل هذه العمومات وهذه الأدلة والإرشادات تدل عل أن الدنيا
مطلوبة، ويعمل الإنسان لأجلها، ولكنه يعمل لأجلها بمقدار أن لا تصل به إلى الصفات
السلبية، وبالتالي علينا أن لا ننسى موضوع
الآخرة، "إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل
لآخرتك كأنك تموت غدا"، أي
إعمل لدنياك بعقلية الخالدين، أما بالنسبة للآخرة، فعندما تريد أن تقدم على
أمر، وتخشى ان يكون فيه معصية لله تعالى، أو لا يحبه الله سبحانه وتعالى، فتعمل
بعقلية من يموت غذا.
وهناك نقيضين من البشر، فنتصور إنسانا أعطاه الله سبحانه
وتعالى من الرزق والمال والسعة وغير ذلك،
ونسي أنه غير خالد، وممكن أن يأتيه المرض أو الموت في أي لحظة، فترى أن هذا
الإنسان يوما بعد يوم قد نحا باتجاه التجبّر، وتصبح لديه ثقة مفرطة بالنفس إلى
درجة يصبح أكثر حرصا، ويحاول أن يتنافس مع الآخرين على الدنيا أكثر، في كل
المجالات، فنرى التاجر يحب أن يؤثر على بقية التجار، والسياسي على بقية السياسيين،
صاحب السلطة كذلك، إلخ، وذلك لماذا؟ لأنه ينسى
أنه غير خالد في هذه الدنيا، فهذا إذا نموذج.
ويوجد
بالقابل نموذج آخر، فلو افترضنا مثلا أن إنسانا أصيب بمرص الموت، وعرف أن
أيامه معدودة، أو إنسان حكم بالإعدام، أو إنسان على أبواب عملية إستشهادية، فهنا
نرى نموذج مختلف كليا، أشياء كثيرة في الدنيا تصغر أمام عينينه، وتضمحل، ولا يعود
لها وجود كما في السابق، وتجده يتنازل عن الكثير من الأمور، وتجد أن حياته أصبحت
لطيفة وسمحة، ويتمنى لو أنه عاشكل حياته على هذه الطريقة .
فنحن إذا لدينا هذين
النموذجين، وعلينا أن نأخذ النموذج الثاني حتى نسهل علينا حياتنا، بحيث لا نندم
على مافاتنا، ولا نفرح بما أتانا فرحا عرضه السماوات والأرض، ولا نمشي في الأرض
مرحا. وكذلك لا نحزن على شيء، بل نتمتع بالقناعة، ونشكر المنعم عز وجل، وبهذه الطريقة يعيش الإنسان مرتاحا، وفي الوقت عينه
يتجنب هموم الدنيا.
ونعود للقول "زين للناس حب
الشهوات... "، معنى زين للناس أن الناس جبلت على هذا الأمر وفطرت
عليه، وخلق الله سبحانه وتعالى ليس فيه خطأ أو عيب أ وسوء تقدير، بل هو تدبير مطلق
وتقدير مطلق، فيقول تعالى "كل شيء خلقناه بقدر"،
ومن جملة هذا التقدير والتدبير أنه فطر الناس على حب الشهوات، فحب الشهوات ليس
قبيحا بذاته، بل بما يتعلق، أي بالكيفية.
وهنا لدينا نقطة مهمة، وهي أن كل المؤامرات
والمخططات التي تأتي علينا، تستغل هذه النقطة الفطرية، فمثلا الناس تحب تجاوز حرمة
العلاقة بين الجنسين، فترى أصحاب المؤامرات يغرقون الأسواق بالأفلام الإيباحية،
ويروجون لها، أو نلمس ذلك من خلال تعرض الإنسان للرشوة، فهذه هي القناطير المقنطرة
من الذهب والفضة، أو تسهَّل عليه سبل الحياة، من الأرض
والبيت والسيارة
وغير ذلك، فتُستغل هذه النقاط لأجل أن
يحصل عند الإنسان حالة إنقياد وبذل للقيم والدين والأخلاق مقابل مايوعد به من
المغريات. فهذه الشهوات إذا تصبح نقاط ضعف،
إذا جعلناها متفلتة من العقاب، فتتحول إلى أمور سلبية. في حين أنه بإمكانها أن
تكون نقاط قوة، عندما نآخذ من هذه الدنيا بمقدار لا ينحدر بنا إلى الإعتداء على
دنيا الآخرين.
نسأل الله
تعالى حسن التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
الحلقة الحادية عشر
بسم الله الرحمن الر حيم، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين
طبعا مازلنا في عناوين المنطق التربوي، ونعيد
ونذكر بمسألة أن المنطق التربوي هي عملية التفكير تربويا، ليس بالقواعد التربوية
التي يتكلم بها علماء التربية، إنما من خلال الفطرة الإنسانية، ما هو الموجود
فيها، والتي لا يتمكن الإنسان من التنكر لها. فهناك في الإنسان صفات وثوابت لا
يسنتطيع التخلي عنها ، لأنها من صفاته الفطرية.
وعودا على الموضوع الذي سبق حول الآية الكريمة بسم الله الرحمن
الرحيم " زين للناس حب الشهوات من النساء
والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والحرث والأنعام ذلك
متاع الدنيا والله عنده حسن المآب". هذه الآية تتطرّقت إلى موضوع جدا
مهم، وهنا بين هلالين، فإن أكثر ماتتطرق إليه الآيات القرآنية الكريمة هو رسم
القواعد الكلية والفلسفة العامة للحياة البشرية. فإذا نحن نقتبس الفلسفة العامة من
الآيات الكريمة، أو الإنسانيات والثوابت العامة. ومن الثوابت العامة أن الإنسان
بطبعه أناني، عنده رغبات فطرية وخاصة. فبمنطق الآية الكريمة "زين للناس"، أي بمعنى خلقنا الإنسان بهذه
الطريقة، أي لديه قابلية لحب الشهوات المذكورة. وبعض المفسرين ذهب إلى القول بأن
الآية الكريمة منصرفة إلى الرجال الذين ممكن أن ينصرفوا عن الجهاد بسبب شهوات
الدنيا. فإذا لدينا حب الشهوات من النساء، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وهو
المال، والخيل المسوّمة أي وسيلة التنقل، والأنعام والتي هي الأرزاق التي تجلب
المال، والحرث وهو ما تنتجه الأرض، ذلك متاع الدنيا. أي أن الله سبحانه وتعالى
أوجد أسباب للتفاعل في الحياة الدنيا، أو مادة من خلالها الإنسان يعيش ويتفاعل
ويتطور إلخ.
طبعا هناك الكثير من الآيات الكريمة التي
تشبه هذه الآية، ويقول الله تعالى من خلالها كيف خلق الأشياء التي يتفاعل بها
الإنسان ويتطور على أساسها.
إذا دعونا نستعرض هذه الأمور الواحدة تلو
والأخرى, وكنا سابقا قد قلنا أن الأنانية تتحكم بالإنسان، والحرص كذلك، وقلنا أنه
ليس كل عنوان نتخيله قبيح هو قبيح، فهو قبيح بمقدار وجيد بمقدار. أما في الشهوة
الأولى، وهي الشهوة المتبادلة بين الجنسين، وكما تقول الآية "زين للناس"، بمعنى أن الإنسان مجبول عليها،
وصحيح أن الآية تخاطب الرجل لأنه محل الثقل في إدارة المجتمع والحرب والإنتاج وغير
ذلك، من هذا الباب، وإنما فالام لها واجب آخر في مجال آخر، فانصب الكلام "حب الشهوات من النساء". وقديما وحديثا كانت
مسألة الرغبة بين الجنسين، مسألة موجودة بالفطرة والخلقة والجبلّة، وبالتالي سنسلط
الضوء عليها ما هو الشيء وما هو الحسن ،كيف تنظر الأديان إليها، وكيف تنظر النظم
إليها.
لم يجد الإنسان في النظم الوضعية قرار ولا
استقرار لهذه المسألة، ولم يطمئن إلى نظرية معينة يستطيع أن يثبت عليها. النظرية
الوحيدة التي ثبت عليها الإنسان هي نظرية الإسلام. ففي غير الإسلام، دارت المسألة
بين الإستهتار والتفلت وتجاوز الحدود بشكل مفرط، أو الإنغلاق بشكل مفرط. ففي
المسيحية التقليدية، العلاقة مع الجنس الآخر خطيئة وليست حاجة، بينما في الإسلام
هي مستحبة بشروطها، فنلاحظ الفرق في الإعتبار. أما في النظم الوضعية سواء كانت
حديثة أو قديمة، وسواء كانت مستفادة من الشرق أو من الغرب، لم تستقر العلاقة مع
الجنس الآخر تحت أية نظرية. وإلى الآن في مناطق الغرب على سبيل المثال، لا يوجد
إستقرار حول هذا الموضوع بل هناك نقاش مستمر حوله، وذلك لأنهم لا يستندون إلى نص،
فما هو الفرق بين الحرية والتفلت، وما هو الحد الفاصل بينهما. فإذا سألنا مطلق
إنسان، حتى لو لم ينتمي إلى دين، حتى لو كان ملحدا، هل التفلت أمر حسن، سيجيبك
بلا، أما إذا سألته إذا ما كانت الحرية أمر حسن، فسيجيبك بنعم. هل مثلا التبرج،
التعري، فتنة النساء للرجال أو فتنة
الرجال للنساء، هل هو حرية أم تفلت؟، هل هو مؤثر سلبي أم هو حق شخصي؟ إلى الآن النقاشات
لم تقف ولم تصل إلى حل، بالرغم من مرور عشرات أو مئات السنين على تلك المجتمعات،
وبالطبع هذا الموضوع له شواهد. ونرى أننا إذا ذهبنا بإتجاه الشرق، شرق آسيا مثلا
كالهند وباكستان، وفي المناطق التي لا يوجد فيها إسلام، نرى أحد الأمرين، إما فيها
رهبنة مقابل التفلت داخل الدين الواحد والمجتمع الواحد، وإما فيها نظم تقليدية
تتغير وتتبدل حسب الأجيال.
في النزعة القومية، في القوميات الذين لا يعترفون بمدخلية
الدين في تنظيم الأسرة والمجتمع وغير ذلك، إلا ما اضطروا إليه في نظام الأحوال
الشخصية، كونها مجتمعات لا تزال لا تسطيع أن تتجرأ وتخرج عن الحكم الشرعي في نظام
الأحوال الشخصية. ولكن في الامور الأخرى، نرى أن النظرية القومية التي تجعل النظام
وضعي صرف، والإطار الجامع هو النزعة القومية.
فالإنسان في النظم القومية يحترم العادات
والتقاليد ضمن منطقة هذه القومية، وهذه العادات والتقاليد تتغير، ولا يوجد فيها
ثوابت، فعبر التاريخ وعبرالموروث الثقافي والإجتماعي لا يوجد ثوابت، بل لدينا ما
يسمى بالتقاليد والعادات.
فإذا أخذنا القوميين العرب على سبيل المثال، نرى أن لديهم ثقافة مشتركة وتاريخ
مشترك ولغة مشتركة وعرق مشترك، وبالتالي نستنتج أن المنظم للعلاقات الشخصية بين
الناس هومجرد التقاليد والعادات الموجودة داخل هذا المجتمع القومي، وطبعا هذا
الأمر عليه إشكالات كثيرة لأنه ليس لدينا في المجتمع الواحد نمط علاقة واحد، أو
ثقافة إجتماعية واحدة، مثلا ثقافة الكرم، تقاليد الزواج، تقاليد الأحزان، تقاليد الأفراح،
تقاليد التكريم، تقاليد العلاقات الأسرية بشكل عام، فهذه الأمور تختلف بين مجتمع
وآخر من ناحية الأساليب والوسائل، فحتى النظرية القومية هي في متاهة في هذا
الموضوع.
فإذا العلاقة مع الجنس الآخر لم يحددها،
كتحديد أمة وسطا، إلا الإسلام. وبناء على ما سبق، نرى أنه عندما يفطر الإنسان
ويجبل على الرغبة تجاه الجنس الآخر، أول مقدمة أن الرغبة موجودة شئنا أم أبينا،
فمن خلال مضمون الآية الكريمة، نرى أنه لدينا خلق وجبلّة وأمور فطر عليها الإنسان ولا يستطيع أن يخرج
عنها، هي بمنزلة من لا يستطيع أن يخرج عن نواميس الطبيعة والكون، وفي حال أراد
الخروج عنها، يصبح وضعه غير طبيعي. ولذلك نقول التالي،
إن الرهبنة بالمفهوم الكنسي الموجود حاليا، هي مفهوم غير إنساني وغير طبيعي، لأنه
خلاف الجبلّة والفطرة، وإذا خرج الإنسان عن الجبلّة والفطرة يصبح غير طبيعي، وكذلك
إذا تمرد على الفطرة بحيث أصبح عنده حالة تفلت، كذلك يصبح غير طبيعي، وبالتالي
يسلك مسلكا غير إنساني، وهذا الكلام تعرّضنا له في أحد الجلسات تحت عنوان النزعة
البهيمية والنزعة الإنسانية، وبينّا صفات كل منهما, انشاء الله في الجلسة المقبلة،
سنتناول كيفية العلاقة مع الجنس الآخر، وما هي الطوارئ والعوارض في هذا الموضوع،
خصوصا في مستجدات التقنيات الحديثة ووسائل الإتصال وغير ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحلقة الثانية عشر - الأخيرة
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل
على محمد وآله الطاهرين
في الجلسة السابقة ركزنا على موضوع الآية
الكريمة " زين للناس حب الشهوات..."،
وركزت على موضوع الإباحية وما تعني في كل مجتمع، وكنا وعدنا في الجلسة السابقة أن
نوضح كيفية تعاطي الإنسان مع موضوع
الإباحية، لأن مشكلة الإباحية أنها لم توضّح حتى الآن بالشكل الذي يقنع الإنسان
بالإقلاع عن الإنجرار وراء الموجات التي نراها على مستوى الفضائيات وغير ذلك من
وسائل النشر، وكل ما يقال حول هذا الموضع أن هذه الأشياء محرمة، وهذه الأشياء تدعو
إلى الفساد وإلى العلاقة
المحرمة وغير ذلك، فيه إغفال عن أن
هذه المسألة تتعاطى مع حاجة من حاجات الإنسان الرئيسية، وهنا المشكلة. فكما حاجة
الإنسان إلى المال، وحاجة الإنسان إلى السلطة، كذلك حاجة الإنسان إلى الجنس هي
حاجة، وعادة الإغراء يتم عبر هذه الأمور الثلاث،
إما عبر المال أو عبر السلطة أو عبر الجنس الآخر،
وتتم المؤامرات وإختراقات المخابرات والأحهزة السياسية وغير ذلك، قديما وحديثا عبر
هذه الطرق.
وأحببت أن أركز على هذا الموضوع لما له من
دقة وأثر مهم ، وطبعا سأتطرق للعناوين العامة الكلية، وأترك التساؤلات فيما بعد.
أولا دعونا نعترف بأمر، وهو أنه في الإسلام، الجنس ليس خطيئة، كما هو الحال في المسحية التقليدية
التاريخية، وهو حاجة بشرية أعطاها الإسلام بعدها الكافي ولكن بشكل منظم، وليس
بالشكل المتفات كما هو الحال في الإباحية الأوروبية أو ما يعبر عنه بالغرب، وأنا
لا أحبذ تعبير غرب وشرق كونه مزحة، وليس له أساس علمي، ففي القرآن الكريم "رب المشرق والمغرب ورب المشارق والمغارب ورب المشرقين
والمغربين"، فليس هناك شرق وغرب معين، فكل مكان في الكرة الأرضية هو
مشرق ومغرب. لذلك دعونا نسمي الأشياء بمسمياتها، فنقول مثلا العالمية أو الحضارة
الأوروبية، مثال، وليس الأمر حصرا على الحضارة الأوروبية، فحتى في بعض الحضارات الآسيوية
هناك شيء من الإباحية، ولها مسميات عديدة، ونحن هنا لسنا في وارد ذكرها. الآن يبدو
أن تعبير المرشدين والوعاظ والمحاضرات التي تنهى عن الإباحية، هو تعبير قاس،
فلنعترف بهذا الامر، فهي لا تبين الأمر بطريقة مقنعة، وبشكل يقتنع بها الإنسان
وتدخل في ثقافته الذاتية، وتدخل في اللاوعي، ويصبح لديه عزوف تلقائي وشخصي عن هذه
المواضيع، ويلتفت إلى مواضيع تنفعه أكثر. لذلك نقول أن هذه حاجة من الحاجات كبقية
الحاجات، كحاجة الإنسان إلى الطعام والشراب مثلا، فالطعام والشراب هو في الحقيقة
عبارة عن رغبة طبيعية فطرية هدفها الحفاظ على النوع، فطبعا الإنسان إذا لم يأكل
ولم يشرب فسيكون مصيره الموت بطبيعة الحال، فلا يستطيع الإنسان أن يخرج عن سنة
التكوين في هذه الرغبة ، كما نقول أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا هواء ولا
يستطيع العيش بلا طعام وماء، وفي موضوع الطعام والماء، هناك صفة إسمها شهية الطعام
والماء، فإذا تعاطى الإنسان مع هذه الرغبة بشكل يخرج عن الحدود الطبيعة، فبشكل
طبيعي ستصبح هذه الرغية في المقلب الآخر، ويصبح الإنسان يبغض الطعام والشراب،
وتتحول هذه الرغبة إلى كراهة أو إلى بغض، وبالتالي يفقد الإنسان إحدى النعم، وهي
نعمة الطعام والشراب، وبالأخص إذا ما ابتلي بمرض ما يمنعه عن الطعام. وهذا الامر
سببه بشكل أساسي الشراهة، وهي تجاوز رغبة الطعام والشراب حدودها الطبيية.
وعندما نأتي كذلك إلى الآداب، مثلا " ضع يدك على
الطعام وأنت تشتهيه وارفع يدك عن الطعام وأنت تشتهيه" ، وذلك ليس من
أجل أن يحرم الإنسان نفسه، بل من أجل أن تبقى شهية الطعام والشراب، وللحفاظ على
أصول الحياة. وكما سبق وقلنا في جلسة سابقة، فإن الحياة هي عبارة عن مجموعة رغبات
في مختلف الإتجاهات، وكلما تراجعت هذه الرغبات إضمحلت الحياة وأصبحت بلا طعم.
فنرى مثلاأن هذا الإنسان أصبح في منتهى الهرم
والعجز، وخصوصا في نمط عيش هذه الأيام الذي اختلف عن نمط عيش أهل القرى، فترى هذا
الشخص ممنوع من الطعام
الفلاني والشراب الفلانيوممنوع عن كذا وكذا..، إلى
أن تصبح دائرة الرغبات عند هذا الششخص ضيقة جدا، وعندما تضيق دائرة الرغبات يصبح
أمله بالحياة ضعيفا، ويفقد حب الحياة ، وتتحول هذه الحياة إلى عذاب. لذلك نجد أن
نسبة الإنتحار مرتفعة في بعض الدول الاسكندنافية بسبب توفر وسائل الراحة إلى حد
الإبتذال، ففي هذه الحالة تموت الرغبة عند الإنسان، ومع موت الرغبة، تصبح الحياة
بلا طعم ويشعر الإنسان بأنه رقم ومخلوق لا
قيمة له ويتفاعل بشكل طفيلي، وبالتالي يفقد أي رغبة في هذه الحياة أو طموح أو ماشابه.وبالعودة إلى موضوعنا، فإذا الجنس رغبة من رغبات الحياة،
لا أكثر ولا أقل ، وأتى الإسلام ونظمها، حتى لا تنقلب إلى ضدها، وهذا أمر جيد.
لذلك، فإن المجتمع الذي تكثر فيه المفردات
الإباحية، كماهو الحال في العواصم الوروبية مثلا وماشابها من العواصم، نرى أن هذه
الرغبة مقتوله لديهم بنسبة 70 إلى 80 بالمئة تقريبا، وقتل هذه الرغبة يجعل الحياة
أكثر تراجعا. وبالتالي عندما نخاطب وجدان هؤلاء الناس، نراهم يقولون أنهم عندما يأتون إلى بيئات أخرى محافظة
أكثر، يشعرون بدفئ الحياة أكثر، لماذا هذا الشعور، لأنه هناك إسترجاع لأحد الحاجات
والرغبات الرئيسية في الحياة .
طبعا
إسترجاع الحياة له عدة إتجاهات، استرجاع العلاقات الحميمة بين أفراد الأسرة، وبين
الناس،كذلك الطبائع الأخلاقية الموجودة في بلدنا والتي يفقدها المجتمع الغربي مثلا، من قبيل الكرم وحسن الجوار والضيافةوغير
ذلك، فبهذه الطريقة يشعر الشخص بدفء الحياة أكثر نتيجة إسترجاع رغبات
الحياة.
وعندما نقول أن الإباحية تضر، السؤال المطروح هوكيف تضر؟ وكيف
يجب مواجهتها؟.
الضرر الأول وكما سبق وأشرنا، أنها تقتل الرغبة، فالإفراط
بالرغبة يقتل الرغبة، ولأجل عدم الإفراط بالرغبة، على الإنسان الإلتزام بالحدود
الشرعية. فنقول لهذا الإنسان أن كل المسائل المحرمة تحرم عليك، وذلك حتى يحافظ على
طافة الرغبة.
والضرر الثاني هو تعمق إحدى صفات النزعة البهيمية، فهذه
الصفة تشتد. وكما نقول في المنطق التربوي، لدينا نزعتين،
نزعة إنسانية ونزعة
بهيمية، والعلاقة بينهما علاقة جدلية، أي بمقدار ماتزيد أحدهما تنقص
الأخرى، والعكس صحيح.
فماهي مشكلة النزعة البهيمية؟، وهذه النقطة مهمة وخطرة، وكذلك بقية
الرغبات التي لها علاقة بهذه النزعة تلعب دورا هاما في حالة التراجع. ونخن سبق و
تطرقنا لهذا الموضوع، ولكن سنذكر به.
فالبهائم تتميز عن الإنسان بأمور عديدة، فهي لا علم لديها، ولا طموح،
ولا نباهة، ولا
روح التطور والتعاون والحضارة وغير ذلك.
وكذلك الامر هناك أمور موجودة في الإنسان وغير موجودة في البهائم، مثل القوة في المال والسلطان وغير ذلك،
ربط الامور والتحليل فكل ذلك غير موجود عند البهائم. فعندما يسلك الإنسان مسلك
الصفات البهيمية، وضمنها هذه الصفة بشكل أساسي، تزداد عنده النزعة البهيمية،
وعندما تزداد النزعة البهيمية، فهي تزداد على حساب الصفات الإنسانية، فتخف لديه
قابلية العلم والنباهة وتحليل الأمور، وقابلية الطموح والتأثير والألفة وغير ذلك.
فالعلاقة مع الجنس الآخر هي من الصفات
البهيمية، وعندما يتعاطاها الإنسان بنفس الطريقة، كما هي الحال في الإباحية
المطلقة في بعض البلدان الأوروبية مثلا. فعندها يحدث إنحدار وهبوط في الصفات
الإنسانية، وفي المقابل يحدث إرتفاع في قابلية الصفات البهيمية، وتشح الصفات التي
من المفروض أن يتميز بها الإنسان عن الحيوان.
فعلى سبيل المثال الحيوان يتنظف ولا يستحم، وهناك فرق بين الأمران، والأوروبي كذلك كان
قديما لا يستحم، ولم يكن لدى الاوروبيين حمامات، وهناك روايات وأرقام عديدة عن هذا
الموضوع. وكذلك الإنسان يلبس الثياب ، بينما البهيمة لا تفعل، فبالتالي كلما تعرى
الإنسان أكثر، كلما اقترب من الصفة البهيمية أكثر.
فإذا فلنضع المعادلة التالية، أنه كلما اقتربنا من الصفات البهيمية،
وبالأخص في الصفات الأساسية، والرغبة أحد هذه الصفات الأساسية، لأنها تتعلق بحفظ
النوع، والمحافظة على البقاء والوجود. فإذا هي رغبة أساسية، وإذا تم الإفراط فيها
وأصبحت بلا ضوابط، تحولت إلى صفة بهيمية،
فالرغبة إذا بضوابط تكون صفة إنسانية، أما بلا ضوابط، فتصبح صفة بهيمية.
وبما أنها رغبة رئيسية، فهي عندما تصبح صفة بهيمية، تجعل تتابع وتدافع الصفات
البيهيمية الأخرى يتكاثر، بحيث نرى أن هذا الإنسان قد تراجعت مؤهلاته، وتراجع
ذكاؤه، وتراجع تحليله للأمور،و تراجع طموحه، ويتراجع لديه كل ماهو إنساني، إلى أن
يصبح إنسان بلا معنى، مجرد رقم لا أكثر ولا أقل ، ويصبح بشرا وليس إنسانا، فهنا
خطورة الموضوع.
فإذا
أراد الإنسان مثلا أن ينجح في حضوره الإجتماعي، وأن ينجح في قابلياته وقدراته
الشخصية، ويصبح لديه حالة تطور، عليه أن يتعامل مع هذا الموضوع بصفة الضوابط وليس
بصفة التفلت. وهذا الضابط هو الموضوع الشرعي، بحسب قناعاتنا، فالموضوع الشرعي هو
الذي يصنع الضوابط، أما لماذا الموضوع الشرعي بالذات، فهذا بحث آخر. ولكن الموضوع
الشرعي يجعل لهذه الحاجة حق ووجود ولكن يحعلها بضوابط.
فتكون النتيجة أن الإنسان مع ضوابط يتطور أكثر، ويصبح أكثر
نباهة، وأكثر قدرة على تحليل الأمور، ويتلقف المعلومات بشكل أسرع، يشعر أن لديه
الحس البديهي أكثر، يألف ويؤلف أكثر،
ويدرك القيم أكثر، وهكذا تقوى عنده الصفات الإنسانية.
لذلك فإن هذه المسألة أصبحت هي الضرر الأشد
والضرر الأكبر،تكمن خطورتها في تحول الإنسان من الصفات الإنسانية إلى الصفات
البهيمية. ولدينا الكثير من الروايات عن كراهية تحول الإنسان في علاقته مع الجنيس
الآخر إلى بهيمة، واللفظ موجود في النصوص والروايات.
فإذا أصبح لدينا مسألة وهي أنه يجب إحراز
الصفة بضوابط، وأن هذه الصفة تعزز من قدرة الإنسان وشخصيته وقدراته وطاقته. اما ما
نسمعه حول هذا الموضوع بأن هذه الأشياء مفسدة ولها مؤثرات سلبية ، فذلك غير كاف.
فلا نسمع أين ضرر هذه الأمور بالضبط. فعندما يقولون أن هذه الأشياء مفسدة، يغفلون
عن كونها حاجة، وهذا الإغفال يوقع الكثير من المحللين المتدينين في هذه الإشكالية،
إشكالية ضعف الحجة وعدم وضوح الإجابة وكفايتها.
والحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق