تعريف النفس عند الفلاسفة
النفس في منظور أفلاطون
لقد اهتم أفلاطون بالطبيعة البشرية وقد اعتبر أن النفس لا مادية وهي
بالتالي مستقلة عن الجسد ولكنها تحل فيه خلال الحياة وإن هذه النفس هي
مصدر السلوك الإنساني كما إنه قًسم النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام ولكل
منها فضيلة خاصة بها وهي كالتالي
النفس العاقلة :ومقرها الرأس ومهمتها التمييز بين أنواع الخير وبلوغ
الخير المطلق وفضيلتها الحكمة
النفس الغاضبة :ومقرها الصدر ومهمتها أن تطيع النفس العاقلة في تحقيق
الخير وفضيلتهــــا الشجاعة
النفس الشهوانية:ومقرها البطن تحت الحجاب الحاجز وفضيلتها الحكمة
والعفة وهي أرفع هذه الفضائل منزلة والإنسان الحكيم هو الذي يلزم
الاعتدال ويحرص على تحقيق الانسجام التام بين هذه الفضائل الثلاث بحيث
لا تطغى واحدة على أُخرى ,فإذا أذعنت النفس الشهوانية للنفس الغاضبة
وخضعت النفس الغاضبة للعاقلة ساد النظام والانسجام في النفس ويٌسمي
أفلاطون التناسب والانسجام بين هذه القوى الثلاثة بالعدالة.
وفي محاورة فيدون وهي من أمتــع ما كتب أفلاطون يشــير إلى تلك اللية
التي تُمثل إعـــدام سقراط ومحورها خلود النفس حيث يقول أفلاطون في
الخطاب السابع إذا كانت النفس إلهية خالدة فليس لها أصل نشأت عنه ولا
تخضع للفساد وإذا كانت النفس إلهية فعلينا أن نتعلق بها وحدها لأن
النفس هي التشبه بالإله بقدر الطاقة الإنسانية ولكن الإنسان ليس نفساً
فقط بل هو نفس وبدن ولكل منهما مطالب ولذلك لن يكون الإنسان ما دام على
قيد الحياة ومتصلاً بالبدن حكيماً بل محباً للحكمة أي فيلسوف فقط وإذا
انفصل عن البدن عند الموت بلغت النفس الحكمة فالموت للرجل الصالح مطية
لحياة أفضل لأنها حياة النفس
النفس في منظور أرسطو
أما أرسطو فقد وضع دراسة النفس في المرتبة الأولى لسائر ضروب المعرفة
لأن النفس وفي رأي أرسطو عبارة عن صورة الكائن الحي ولا يمكن أن تمارس
النفس وظائفها بدون البدن كما إنه عرًف النفس بأنها مابه نحيا ونحس
ونفكر ونتحرك في المكان
إن فكرة أرسطو تتجلى بأن النفس صورة الجسم لا يمكن أن تنفصل عنه ولا
يمكن أن تكون نفس بلا بدن والعلاقة بينهما ليست علاقة ميكانيكية بل
علاقة كل شيء بوظيفته ويقول : إن ملكات النفس من إحساس وحس مشترك تفنى
بفناء الجسم ما عدا العقل الفاعل فإنه لا يهلك وهو أزلي أبدي لا أول له
ولا نهاية له وقد جاء من الخارج إلى الجسم ويفارقه عند الموت ,جاء من
الله لأن الله هو العقل المطلق
النفس في منظور ابن مسكويه
ابن مسكويه يقر وجود النفس في كيان الإنسان ولا سبيل إلى إنكارها أو
تجاهلها ولا يفرق بين العقل والنفس فإنه يراهما واحداً كما إنه يرى أن
الحس إذا أخطأ بادرت النفس بتصحيح الخطأ ويعتبر أنها ذات ثلاث قوى
الأولى يكون بها الفكر والتمييز والنظر في حقائق الأمور والثانية يكون
بها الغضب والنجدة والإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والثالثة
يكون بها الشهوة وطلب الغذاء والشوق إلى الملاذ . فابن مسكويه يرى أن
في الإنسان ثلاث أنفس لا نفس واحدة وقد قًسمها بالصفة الغالبة عليها
وهي كالتالي:
النفس البهيمية : وهي أدنى الثلاث شأناَ
النفس السبعية:وهي أوسطها
النفس الناطقة: وهي أعلاها وأشرفها والإنسان إنما كان إنساناً بأشرف
هذه النفوس وهي الناطقة وبها شارك الملائكة وباين البهائم ؟؟؟
ــــــــــــــــــ
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها
وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع
ماخلقكم ولابعثكم إلاَ كنفس واحدة
ثم توفى كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات
بل الإنسان على نفسه بصيرة
كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة
لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيرا
إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم
تناول اليوم إثنين من أصعب المفاهيم المعرفية في القرآن والتي تحتاج إلى ترتيل دقيق لمعرفة ماتحمله من قول ثقيل لعلي أدرك سر هذا الخلق العظيم في تكوينه المادي والمعرفي ألا وهو الإنسان !. وقراءتي هي استمرار للحلقة السابقة حول الوجود المعرفي للإنسان في معنى النفس والروح المعرفيين.
فالنفس : من نفس النون والفاء والسين أصل واحد يدل على خروج النسيم كيف كان، من الريح أو غيرها، وإليه يرجع فروعه. منه التَّنفُّس: خروج النسيم من الجوف،......1.
فكل نفس تتنفس فهي كائن حي وهي التي تموت ( والذي خلق الحياة والموت)، ( كل نفس ذائقة الموت)، والنفس نفسان: نفس حية بشرية لاروح فيها وهي الوجود الموضوعي( البشر) ونفس نفخت فيها الروح وهي النفس الإنسانية الوجود الذاتي ( الأنا) ، وهي هي النقلة العظيمة التي تحول فيها البشر إلى إنسان بعد أن تجاوز مراحل التطور الطبيعية لتلك العملية ( السيرورة والصيرورة ) في وجوده المادي ككائن حي من الطبيعة المادية التي خلقها الله تعالى. ومن هنا نفهم إهتمام القرآن الكبير بها حيث تناولها من جميع الجوانب المادية والمعرفية ورصد عملية نشؤها وتطورها وتغيرها من خلال القوانين الطبيعية والمعرفية المحددة لها. فهناك مراتب ومستويات معرفية مختلفة للنفس الإنسانية فأدناها مرتبة ومستوى هي النفس الظالمة التي اختارت الظلم فتكون آثارها في الواقع الحياتي للناس الفساد أي تخريب الحياة
على جميع الأصعدة . ونفس مكسورة ضعيفة وأخرى قوية تحب الخير وهو قول القرآن ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) 32 فاطر. هذا على المستوى الإجتماعي أما على المستوى المعرفي فيطرح القرآن ثلاثة مستويات معرفية : الأدنى وهي النفس الأمارة بالسوء والثانية النفس اللوامة ومن ثم المستوى الأعلى التي يمكن أن تصله النفس في ارتقائها نحو الكمال وهي النفس المطمئنة . يبين لنا القرآن بالتحليل الدقيق لكُلِ مستوٍ من مستويات النفس وآثاره المعرفية والإجتماعية في الحياة الإنسانية والذي يحتاج إلى مجموعة إختصاصيين في علم النفس والإجتماع والألسن لتغطية كل ماجاء به القرآن من مفاهيم تخص النفس الإنسانية. بالنسبة لي أقف عند الجانب المعرفي لثلاثة مستويات فقط وهي المذكورة أعلاه لعلاقته بالوجود المعرفي للإنسان كما طرحته في الحلقة 14. فالنفس الأمارة بالسوء أي التي تأمر به من الأصل أمر : وهوخمسة أصول الثاني منها الأمر ضد النهي 2. أما السوء فهو القبح ، فتقول رجل أسوأ أي قبيح ، وامرأة سوآء ، أي قبيحة ,3. فمعنى الآية يكون النفس التي تأمر بالقبح من الأفعال والأفكار ....الخ. أما المستوى الثاني وهو متطور عن الأول فقد احترمه القرآن حيث قال بحقه ( ولاأقسم بالنفس اللوامة) . فالقسم هنا اليمين واللوامة : من العتب والعذل 4. فمعنى ذلك في لغة الحاضر النقد الذاتي ، أي أن تراجع نفسك فيما عملت أو قلت إن كان خطأ فتقر به وتعتذر منه . فالعرب تقول لُمتْهُ لَوْما، والرجل مَلُوم، والمُليم: الذي يستحق اللَّوم.5. فهي مرحلة متطورة في الجانب الإنساني حيث إستطاع الإنسان أن يكتشف خطأه ويعترف به أمام الآخرين وهنا كان السبق في ذلك للمرأة لإنها أول من مارس ذلك ! فهل نتعلم منها نقد أنفسنا أمام الناس لنجعل حياتنا أجمل وأسهل كما فعلت عاشقة يوسف علية الصلاة والسلام فبرأته فاستقامت الحياة وأصبحت أجمل وأحلى. وهنا يكشف القرآن عن تلك الممارسة المعرفية الجديدة في حياة الإنسان وعلى لسان المرأة لتكون درساً للناس في كيفية إكتشاف الخطأ ومعالجته بالإعتراف به أمام الناس وتجاوزه سلوكياً. أي أن يصبح النقد الذاتي سلوكاً معرفياً واجتماعياً للإنسان . فلا يكفي إكتشاف الخطأ والإعتراف به أمام الناس بل تجاوزه سلوكياً. وهو هو طريق الكمال المعرفي والإجتماعي للإنسان. وأول ممارسة نقدية مجردة بدأت مع آدم بعد تأنسنه وهي التوبة أي العودة إلى السلوك الصحيح بعد اكتشاف خطأ السلوك السابق وهي ميزة لايملكها إلا الإنسان وهي من مميزات النفس الإنسانية( الروح). وهذا المستوى تحياه الشعوب الحرة في عالمنا المعاصر وأقول الحرة لعلاقة التلازم بين الإثنين فلا نقد بدون حرية فالنفس الحرة هي التي تملك الشجاعة الإجتماعية والمعرفية لنقد ذاتها لإنها لاتخشى من أحد ( نظام ظالم مستبد أو إنسان ظالم مستبد أو مستلب ضعيف) فالحرية توفر الشروط الموضوعية لعملية النقد لتصحيح الخطأ في السلوك أو الفكرة أو النظرية أو وسيلة الإنتاج إلى آخره. فمادام الإنسان يتطور ويتغير فهو معرض للخطأ فبالنقد تتطور المجتمعات نحو الأفضل وعلى هذا فصحيح من قال من لايعمل لايخطأ وإلاّ بطل النقد وهو ميزة أساسية للنفس الإنسانية ومعنى ذلك العودة إلى عالم الحيوان ( البشر قبل الأنسنة = نفخة الروح). وهنا أضطرني إلى قول الحقيقة المُرّة مرة أخرى إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية لاتزال في المستوى المتدني الأول إجتماعياً ومعرفياً أي أن إنساننا مازال وجوداً موضوعياً لم يتحول إلى إنسان بالمعنى القرآني له. وهو هو سر وصف القرآن القاسي لهم
(أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلا). وهذه كتلك ولاحول ولاقوة إلاّ بالله العلي العظيم. نعم إنها مسألة اختيار فنحن من اختار (الانقلاب على الاعقاب) مما أدى إلى تعطيل محور الصيرورة في البنية الإجتماعية والذي يعني تعطيل التطور الإجتماعي والمعرفي للناس فعادوا القهقري إلى عالم البشر المظلم ( الذي يسفك الدماء ويفسد في الأرض) وهو ماعليه مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم وإلى ماشاء ت، مالم تبدأ عملية النقد لكل الأسس الإجتماعية والمعرفية السائدة في الواقع لتعيد إنتاج نفسها (الإنسانية) مما يفتح إمكانية عمل عامل الصيرورة في البنية الإجتماعية ومن ثم السير في خط التطور التاريخي من جديد.وإلاّ هو الموت المتجدد إن الكرة في ملعبنا نريد أو لانريد ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم)، فهل نريد تغيير مابأنفسنا لتصبح نفوساً إنسانية ؟!.
أما المستوى الأعلى في سلم التطور للنفس الإنسانية وهومرحلة النفس المطمئنة وهو ماتنشده الإنسانية في خط تطورها التاريخي وهو هو السلام العالمي أي يوم يعم السلام العالم فلا حروب ولاسلاح نووي أو تقليدي ليحل الحوار النقدي البنّاء بين الشعوب وهو هو معنى ( إدخلوا في السلم كافة) ، وهو هو الحرية الإنسانية بأرقى أشكالها . فهذا المستوى لايزال فردياً أي أن مجموعة من الناس منفردين يمكن لهم أن يحققوا ذلك وهم ورثة الأنبياء والأدلاء( وقليل من عبادي الشكور)، أما الناس جميعاً فأمامهم مشوار طويل!.